ارتبطت السيرة الذاتية بالسرد القائم على أحداث ووقائع يتم تذكرها، وهي مجال للقاء مشوق بين الكاتب وقارئه من خلال الكشف عن خصوصيات مكامن النفس البشرية وطموحها وآلامها.
فالسيرة الذاتية في المقام الأول بوح سردي ينقل لنا حياة كاتبه في أحداث واقعية وليست متخيلة كما في الشعر، لكن عددا من النقاد لاحظوا استفادة السيرة الذاتية والشعر معا من تماس الأجناس الأدبية وتداخلها.
نجد الشاعر المغربي محمد بنيس في سيرته الذاتية "شطحات لمنتصف النهار"، قد ذكر جوانب مهمة من حياته بصفته شاعرا، بل إن الشاعر الفلسطيني محمود درويش فتح باب قصيدته على السيرة الذاتية، وكتب مجموعة شعرية كاملة مادتها أحداث الطفولة المتداخلة مع جغرافيا المكان وتاريخه وأهله، كما يلاحظ الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف السخيري في حديث للجزيرة نت.
كل ذلك يثير أسئلة الحدود الفاصلة بين الشعر والسيرة الذاتي، وجدلية العلاقة بين الذاكرة (السيرة)، والمتخيل (الشعر).
اعتراف
في كتابهما "نظرية الأدب"، يذهب الناقدان الأميركيان رينيه ويليك وأوستين وارين إلى أن من المستحيل بناء السيرة من العمل الفني والأدبي، أو ربط أحداثهما بنظيرتها الواقعية.
لكن المنظر الأدبي الفرنسي فيليب لوجون الذي عرف السيرة الذاتية بداية بأنها حكي نثري معتمد على الذاكرة، عاد ليبرز انفتاح الشعر على هذا الجنس ذي الأصل النثري.
لذا يقول الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري للجزيرة نت إن رواد التنظير للسيرة الذاتية كرسوا معظم جهودهم في ربط هذا النوع رأسا بالسرد، غير أن صعود مشاريع كتابة السيرة الذاتية شعريا في العقود الأخيرة، ولا سيما بعدما التبست الحدود بين الشعري والسردي، أتاح للباحث أن يتبين جماليات الأنا في السيرة الذاتية وتخييلاتها داخل فضاء الشعر.
ويضيف الوراري أن ذلك شكل طـورا جديدا وذا أهمية بالنسبة إلى حياة نوع "السيرة الذاتية"، وعلاقاته وإمكانات عمله، لأنه لن يظل أسير المرجعي وحسب، بل يتجاوزه إلى التخييلي والمحتمل الذي يكتب بيد ويمحو بأخرى.
ويرى الشاعر والناقد المغربي صالح لبريني -في تصريح للجزيرة نت- أن السيرة الذاتية تتضمن الجانب الشعري، لسبب بسيط، فهي تتخذ من الشعر شحنة جمالية وفنية وإيحائية، من خلال استثمارها للخيال الجامح وللرموز والوصف، وهذه المقومات جزء لا يتجزأ من بنية النص الشعري.
فيما يبرز الشاعر والناقد الأدبي المغربي عمر العسري للجزيرة نت أن الشعر محكوم بمبدأ المزدوج والتنوع داخل الوحدة الشعرية التي تؤطره، فلم نقرأ نصوصا خارج هذا الأساس الكتابي، وحتى بإرجاعها إلى أبسط أشكال الكتابة الشعرية نجد انفتاحا على الذات أو الأنا، ولذا، ففي القصيدة المعاصرة لا نرى الرؤية الشمولية فحسب، بل نعثر على الحد الأقصى من التنوع الذي يفسح المجال أمام مداخل عديدة.
انفتاح
واجه النقاد سؤال ملامح انفتاح السيرة الذاتية على الشعر، والربط بين أنا الشاعر المبثوثة في شعره وبين ذاته الواقعية المشار إليها بالاسم الشخصي. يشير أبو حيان التوحيدي -كما يلاحظ الناقد صالح لبريني- إلى أن الشعر لا يختص وحده على الموسيقى والخيال، بل يشاركه فيهما النثر، "ففي المنظوم -أي الشعر- نثر، والمنثور فيه نظم".
ويؤكد لبريني على أن العلاقة بين السيرة الذاتية والشعرية قائمة الذات دون منازع، وما يقوي ذلك أن الشعراء المعاصرين قد كتبوا سيرهم الشعرية سردا، مثل عبد الوهاب البياتي في كتابه "تجربتي الشعرية" وصلاح عبد الصبور في "حياتي في الشعر" ونزار قباني في "قصتي مع الشعر".
أما الناقد عبد اللطيف الوراري فيقدم في حديثه للجزيرة نت نموذجين بارزين، وإن كان هو نفسه قد اشتغل على عدد أكبر منهما.
فيذكر الوراري أن المؤلف والرسام والناقد التشكيلي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، يركز على محكي الطفولة، فقد كتبها بوعي تخييلي وذرائعي ينسجم والرغبة في استدعاء عالمه، ولم تكن مثل هذه الكتابة ممكنة لولا إمكان التصرف في ذكريات الطفولة البعيدة اختصارا وحذفا، والقدرة على استعادة براءتها المفقودة بقدر إعادة بنائها وخلقها عن طريق الخيال.
أما في التجربة المغربية، فحين كتب الشاعر المغربي محمد بنيس سيرته الذاتية الشعرية "شطحات لمنتصف النهار"، سرد جوانب مهمة من حياته داخل فاس وخارجها، ولكن من منظور وجوده كشاعر، فتمازج السجلان الشخصي والفكري.
والأطرف -بحسب الوراري- أن الشاعر لا يستعيد ما مضى من حياته الشخصية، بل بالأحرى يكتبها ثانية ويعيد تشكيل هوية ذات الكتابة من خلال الـ"بقايا" التي ما زالت تعتمل في الدخائل، بقايا الأشياء والأحلام والعناصر، أو من خلال المجهول الذي يناديه ويتهيأ له من أمكنة بعيدة.
وهنا يزداد إلحاح "اختراع" الهوية بالنظر إلى المآزق التي انتهى إليها زمن الذات الكاتبة، وخيباتها ومشاريعها المحبطة سواء ذاتيا أو جمعيا، منذ زمن السبعينيات.
سيرة في قصيدة
وتظهر سير الشعراء أيضا في قصائدهم، ويؤكد الناقد عمر العسري أن الذاتي في الشعر العربي المعاصر هو استجلاء للعلاقة الملتبسة بين الكتابة والأنا، وفاعلية هذا الاستدعاء لا يمكن إنكارها، لأن الكتابة ذاتية في مبدئها، ومفهوم الذات في الشعر يتجاوز الجانب الشخصي أحيانا في بناء القصيدة ليعني بناء لغة شعرية وخطاب شعري فردي بطريقة مخصوصة إيقاعا وتركيبا، ومتخيلا ورؤى.
ويضيف أن الذاتي مكون أساس في الشعر، على أن الحد الأقصى للآخر المتحقق هو الابتكارات التي تصرف الشعر عما هو غير متوقع.
ويبرز أن القصيدة -بإرجاعها إلى أبسط أشكالها- هي ذات الشاعر وسيرته الشعرية، وإنه لتغيير كبير طارئ على الشعر بانتقاله من القصيدة الشاملة الملحمية -على حد تعبير الشاعر والأديب المكسيكي أوكتافيو باث- إلى القصيدة العميقة المبهمة والمتعبة باليومي في آن.
في السياق ذاته، فالمنجز الشعري للشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري "كأني أفيق" -كما يرى الوراري- هو بمثابة سيرة متخيلة لأنا السيرة الذاتية الغنائية يقيم علاقة نوعية مع مسقط رأسه فاس إلى درجة الاتحاد بها أو التماهي معها، وذلك لأنه لم يكتف باستعادة سيرة الذات الشخصية وأحداثها الماضية منذ الطفولة، وإنما أعاد بناء هذه السيرة وتخييلها من خلال انفتاحها على الشعر الذي منحها حساسية جديدة ورؤية مضاعفة للعالم، ومنح الذات الشاعرة هوية متحولة تغتني باستمرار.
تناص
ويتناص ديوان الشاعر محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" مع كتابه النثري "يوميات الحزن العادي".
ويقول الناقد عبد اللطيف السخيري للجزيرة نت إن السيرة في هذا العمل تنأى بنفسها عن التأريخي والتسجيلي دون أن تضحي بالدال من أحداث الماضي المتواشجة مع وقائع الحاضر وتطلعات الآتي، وهو ما يعطي لبنية الزمن السردي طبيعتها الشعرية المكثفة، والمتشظية في الآن نفسه.
ومن تلك الشظايا التي تنضاف إليها جغرافيا المكان وتحولاته، يشكل الشاعر ذاته غير المنفصمة عن هوية الجماعة التي يكتب أسطورتها بمزيج من الملحمي والتراجيدي، بحسب الناقد المغربي.
ويلاحظ السخيري أن هذه السيرة الشعرية استوت عبر ستة مقاطع يمكن اعتبارها فصولا، يتقدمها استهلال يحدد طبيعة السارد ورؤيته البانورامية، كما يمكن اعتبار المقطع الأخير خاتمة تغلق المشهد دون أن تضع نهاية للأحداث.
وينبه أيضا إلى أن هذا التقسيم له نسب مسرحي، باعتبار الاستهلال "برولوغا"، والمقاطع فصولا، وإغلاق المشهد الذي يبدأ بشهادة المسرحي الألماني الشهير "برتولد بريخت" إسدالا للستار. وهذا يجعل السيرة الشعرية مقدمة تقديما دراميا يتناسب مع تراجيدية القدر الفلسطيني، مما يؤكد استضمار شعرية درويش لأجناس نثرية متعددة، تصير جزءا فاعلا في بنية تلك الشعرية.
ويخلص السخيري إلى أن تجربة محمود درويش غنية في هذا العمل من خلال فتح حدود القصيدة على أجناس نثرية متاخمة، مبرزا أنه بالتنافذ بين خصائص الشعر، والسيرة الذاتية، والبناء الدرامي المسرحي، يكون درويش قد استفاد من التخوم الأجناسية بين الشعر والنثر، وأسهم -بوصفه مبدعا حقيقيا- في إرباك التجنيس، ومن استكان إلى أطره وتسييجاته.