[ الدولة العباسية كانت تاريخيا هي الأكثر جنوحا إلى التنكيل بوزرائها من الكتاب والشعراء ]
"إِذا انتهى الشيء إِلى منتهاه وبلغ غايته، ووافق ذلك إعجابَ من يراه، ثم عرض له بعض أعراض الدنيا، قيل: قد أصابته عين الكمال"؛ و‘عين الكمال‘ التي يقصدها هنا مؤرخ الأدب العربي أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) هي شؤم النهاية الذي يمس شريحة كبيرة من رجال الدولة الذين احترفوا الأدب والشعر.
ومهما تكن التفسيرات التي حاولت مقاربة دلالات هذه "اللعنة"؛ فإنه لا يُعلم سر هذا الاقتران بين الفاجعة والأدب عندما يجتمعان على أحد رجال الدولة في التاريخ الإسلامي. ولذا كان أدباء العربية إذا أصابهم الفقر وعُسْر الحال عزَّوْا أنفسهم بأنهم أدركتهم "حُرفة الأدب" (الحُرْفَة = الحِرْمانُ)، وهي عبارة تُساق على وجه التشاؤم ويُقصد بها آفة تصيب الأديب البارع فتسبب له الحرمان ونكد العيش.
وقد اتسع نطاق شؤم "حُرفة الأدب" حتى شملت المتأدبين المحظوظين من أرباب مناصب الخلافة والإمارة والوزارة، الذين جمعوا بين رفعة المنصب وكمال الأدب ثم أصيبوا بمكروه قضى سريعا على حكمهم بإقالة مفاجئة، تتبعها نكبة سجن ومصادرة مال أو قتل واغتيال مستبشَع، بل إن بعضهم تنبأ بنهايته الفاجعة كما سنرى! ويتقصى هذا المقال النهايات المأساوية للمصابين بـ"حُرفة الأدب" و"عين الكمال" من رجال الدولة الذين تعاطوْا الأدب ووُصفوا بذلك في كتب التاريخ والتراجم.
سوابق أموية
كان الأمير القائد مسلمة بن عبد الملك بن مروان (ت 120هـ) أديبا عالما، متعاطفا مع الأدباء ومقدرا لظروفهم، ولذلك يروي عنه أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ) -في ‘البصائر والذخائر‘- أنه أوصى بثلث ماله "لطلاب الأدب" لأنهم أهل "صناعة مَجْفُـوّ أهلها". وكانت تلك الوصية تعبيرا عن إحساسه القوي بالضيم الذي يعاني منه أهل الأدب في عصره، رغم اعتناء إخوته أمراء الدولة الأموية وأبنائهم بالشعراء.
لم تكن وصية مسلمة نابعة من فراغ؛ فقد كان هو نفسه يعاني من "ضيم" و"كمال" حرماه من تولي الخلافة، التي حكم له الذهبي (ت 748هـ) –في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه أوْلى بها "من سائر إخوته"، لأنه لم يكن لأبيه "ابنٌ أسدُّ رأيا، ولا أذكى عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمح نفسا، ولا أسخى كفّا" منه.
وقد أرجع مؤرخون -بينهم ابن عبد ربه الأندلسي (328هـ) الذي كان نسبا من مَوَالي الأمويين- عدم تولي الأمير مسلمة للخلافة -رغم أحقيته بها- لكونه ابن أَمَة، وهذا عامل آخر ينضاف لعامل الأدب، علما بأن الميثولوجيا الشعبية الأموية كانت ترى أن نهاية دولتهم ستكون على يد ابن أَمَة؛ وهو ما قد كان على أي حال!
وكان ابن أخي مسلمة يزيد بن الوليد (ت 126هـ) "الملقب بـ‘الناقص‘ -لكونه نقص عطاء الأجناد- توثب على ابن عمه الوليد بن يزيد (ت 126هـ) وتم له الأمر...، واستولى على دار الخلافة في سنة ست وعشرين (ومئة)، ولكنه ما متع ولا بلع ريقه"، إذ سرعان ما قـُتل في انقلاب أموي مضاد.
تابعنا في :