[ صنعاء القديمة ]
رغم صعوبة التفريق بين التراث المادي واللامادي للشعوب لتداخلهما أحيانا، وتكاملهما غالبا، يتم الاحتفاء بالتراث المادي من الإرث التاريخي مثل الآثار والتحف. إلا أن النوع الثاني -وهذا ما يتجاهله الكثيرون كواحدة من المفارقات التاريخية السيئة- هو صاحب التأثير الأكبر على حياة الشعوب، لارتباطه العميق والمباشر بالموروث الثقافي والفكري، شاملا تراكمات الماضي ومآلاتها الحديثة.
وفي تفاصيل هذا اللقاء الخاص -الذي أجرته الجزيرة نت، بالتزامن مع اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري (27 أكتوبر/تشرين الأول)- يتحدث وكيل وزارة الثقافة اليمني للتراث اللامادي عبد الهادي العزعزي عن هذا النوع من التراث الهام والمؤثر على حياة الشعوب، ويتعمق أكثر في توضيح العلاقة التأثيرية له وعليه مع الحرب الداخلية.
يقول إن التراث اللامادي يشمل كل الموروث الثقافي، الشفهي والسمعي وكافة أنماط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان بما في ذلك الأفراح والأتراح والمناسبات والأعياد وطرق إحيائها، وفنون القول من الحكم والأمثال والأشعار والأغاني والزوامل والأهازيج والحكايات والأساطير والرقصات، بل وحتى نوعية الأطعمة، وتراتبية العلاقات الاجتماعية، وأنماط التعليم التقليدية والطب الشعبي والزراعة والرعي والإنتاج الغابي والحراجي، والحرف اليدوية.
ويرى العزيزي أن التراث اللامادي يعطي صورة شبة حية أو متحركة عن الماضي، مؤكدا الارتباط بين التراث المادي واللامادي اللذين يكمل أحدهما الآخر.
إلى أي درجة أثرت الحرب على التراث اللامادي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؟
الحرب حالة من التدمير العام، وتستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة، والسلاح الثقافي أحدها، بكل تأكيد.
ودائما ما يحاول القادم الجديد فرض خطاب ثقافي جديد خاص به يؤسس له ويخدمه، في الوقت الذي يسعى فيه، ويحاول، طمس كل موروث يخالف ويتعارض مع توجهاته الفكرية والثقافية والسياسية، بهدف خلق بيئة حاضنة له ومعارضه لغيره.
لذلك يلجأ إلى استهداف التراث المادي أولا ثم يلحقه تاليا باستهداف التراث اللامادي للمجتمع، وخصوصا المرتبط منه بالتراث المادي الذي استهدفه.
كما أنه يحاول ضرب كل ممكنات المقاومة، وما يعزز الحرية وأدواتها المختلفة كرموز تعمل على إبقاء، أو أحياء، أو بعث وإيقاظ الشعور بالانتماء الوطني والقومي، ومعاني العزة والكرامة وقيم رفض الظلم والهيمنة الفردية والتسلط والتجبر والقهر.
أو أنه يحاول تسييرها لصالحه، أو إنتاج عادات وأقوال وأهازيج جديدة تتوافق مع سياساته وتوجهاته، أو اختلاق مناسبات وأعياد وطقوس تسهل سيطرته وتقوي نفوذه.
وبالنسبة للحالة اليمنية لاحظنا كيف مارس الانقلاب الحوثي كل ذلك، وخلق أعيادا جديدة خاصة به وطنية -كعيد 21 سبتمبر/أيلول (يوم انقلابه على السلطة الشرعية عام 2014)، وأعياد دينية -كعيد الغدير وعاشوراء والمولد النبوي، والتي تعزز زعمه بالانتماء سلاليا إلى بيت الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما أنه عمل على تعزيز الموالد.
ومن استخدام التراث الفني اللامادي، عمل الحوثيون على إنتاج مستوى كبير وخاص بهم من الزوامل والأهازيج الشعبية التي كان القبائل يهجلون بها في مواسم الإنتاج والعمل الجماعي، وحولوها إلى ما يشبه التعبئة الحربية لرفع الروح المعنوية لمقاتليهم.
أضف إلى ذلك: قيامهم بتغيير المناهج الدراسية وحذفهم كل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 ضد الإمام، التي يعتبرون امتدادا لها، واستحداثهم لمناهج تسند وتدعم حركتهم وتوجهاتهم وتمجد قادتهم وأعيادهم الدينية.
كيف تقيمون استخدام "الزامل" الغنائي من جهة طرفي الصراع، بالنظر إلى التراث اللامادي كعامل مؤثر في مسار الحرب، لا متأثرا بها؟
أصبحت هذه الأهازيج والأغاني الشعبية الجماعية -التي تسمى "الزوامل، الشيلات"- أشبه بالنشيد العسكري الحربي، حيث يتم استخدامها كثيرا في الحرب الإعلامية والتعبئة الحربية.
ولدرجة أنه يتم استجلاب مكبرات الصوت إلى خنادق المعارك وفتحها لرفع الحماسة القتالية. وبحسب بعض المعلومات التي وصلتنا فإن الحوثيين يقومون بتوزيع أجهزة أم بي ثرى (mp3) على المقاتلين للاستماع إليها.
والملاحظ أن هذه الزوامل صارت اليوم تنافس بقوة الأناشيد الوطنية أو الحماسية القتالية. وقد أنشئت لها فرق خاصة تتبع الإعلام الحربي والتوجيه المعنوي العسكري، ولحنت لها ألحان التزمت بالنمط التراثي القديم لشكل الزامل، لكن بشكل حديث وأدوات حديثة. وهي اليوم تكاد تكون طاغية على الأغاني والأناشيد الوطنية التي كانت المادة الأساسية للجيش اليمني في كل برامجه للتوجيه السياسي المعنوي قبل هذا الانقلاب.
ويمكن التأكيد أن الحوثيين أول وأكثر من استخدم هذا النوع التراثي (الزامل) في هذه الحرب تحديدا، تماشيا منهم مع البنية القبلية التي يوجدون فيها ويسيطرون عليها، خصوصا وأن الزامل يعد أحد الأنواع الغنائية الجماعية التي ظلت مستخدمة ومؤثرة في القبيلة اليمنية العليا (مناطق الشمال وشمال الشمال اليمنية) حتى اليوم.
ثم جرى التجاري معهم في ذلك من قبل الجيش الوطني، خصوصا في المناطق ذات البنية القبلية القوية، مثل: مأرب والجوف والبيضاء. بل إنها وصلت إلى تعز (جنوبا)، والساحل الغربي وبعض المحافظات الجنوبية، ولكن بوتيرة أقل من استخدامها عند الحوثي الذي ظهر وكأنه يستند في ذلك إلى متخصصين في سيكولوجية الإنسان اليمني وتركيبته النفسية، ليعمل على توظيف هذه المكونات للتراث اللامادي اليمني باحترافية عالية.
يمكن القول إن الحرب أعادت إحياء "الزامل الغنائي" للواجهة بعد أن كاد يندثر. لماذا هذا النوع بالذات هو الذي برز أكثر دون غيره من التراث اللامادي؟
اليوم نجد أن الحوثيين ليسوا كما يعتقد البعض أنهم حركة متخلفة بدائية، بل حركة خطيرة، وقد يكون لديها مستشارون محترفون. حيث وجدناها تلعب على المكونات الناظمة للشعب اليمني، خصوصا الذاكرة الوطنية، والتعدد والتنوع الثقافي والنفسي الداخلي.
فقد أنتجت خطابا فنيا وثقافيا يمتلك قابلية الانتشار السريع، وخلقت أغاني على شكل زوامل تأخذ أبعاد الأهازيج وبنفس مواصفتها، وحولته إلى نمط غنائي حربي حماسي ومؤثر، تستغله في الحشد والتجنيد وكسب الولاءات وتعزيزها. في حين عملت على خلق زعامات شعبية شابة وجديدة، على غرار البيوت التقليدية من أصحاب السلطات المحلية، بهدف خلق جيل اجتماعي جديد قادر على إيهام الوعي البسيط أنها حركة ثورية تغيرية حقيقية وقريبة من الناس.
واليوم يمكنك متابعة اليوتيوب، فهناك العشرات من الزوامل الحربية التي تشعل المقاتلين حماسا وشجاعة واستبسالا، وتستحث نخوتهم الوطنية (الجديدة) التي خلقتها هي لمصلحتها ضد ما يسمونه "العدوان".
ومثل هذا الخطاب، ينجح مع القبيلي، المعروف في تركيبته القبلية المشاعة أنه لا يعرف الاستسلام والانكسار، إذ يعتبر ذلك عارا لن يمحى منه.
من حيث المعرفة من عدمها بالقيمة الاجتماعية والسياسية لتأثيرات التراث اللامادي على الشعوب، كيف تقييم تعامل القيادة الشرعية والتحالف العربي بهذا الجانب مقارنة بالحوثي؟
يجب أولا أن نعترف أن الحوثي -كما أوضحنا سابقا- أنتج أكثر من خطاب يراعي التعدد البيئي في الجغرافيا الداخلية للمحافظات اليمنية، في بلد وصمها كل من العالميين الأوروبيين: أرنست غلنر وروبير مونتاني بـ "المجتمع المجزئ".
فاليمن -كما هو معروف- يتجزأ داخل جغرافيات متعددة في كيان سياسي واحد، له حالة من التكوينات المختلفة جغرافيا، وبالتالي ثقافيا، وهو ما جعل الانقلاب الحوثي -طبقا لمعرفته بأهمية ذلك يقينا- يعمل على إنتاج أكثر من خطاب، متعدد ومرن، يراعي كل هذه الخصوصيات والتباينات الداخلية.
يأتي ذلك مقابل ما لاحظناه من إغفال كل من السلطة الشرعية والتحالف العربي لهذا البعد الثقافي، التراثي والتاريخي، الذي يشكل المحور الأساس في البنية الثقافية للمواطن اليمني.
والغريب أن السلطة الشرعية والتحالف العربي -وبرغم كم المعلومات التي تملكها المملكة العربية السعودية عن هذا البلد- كان استخدامهم لتلك المعلومات يكاد يكون متواضعا، إن لم يكن بحكم المنعدم تقريبا.
كما أن اعتماد السعوديين على السلطة الشرعية، مع إبقائها مقيمة في الرياض، جعل المواطن وكأنه إثنا عشري، أي يشعر أنه يقاتل عن رئيس (مغترب) أشبه بـ "إمام مخفي" عند الشيعة الإثني عشرية. في حين أن اليمنيين عموما معروفون تاريخيا أنهم لا يقاتلون إلا خلف قائد قوي موجود معهم وبينهم، يشعرون به وكذلك بأدواته، ويكون قادرا على مخاطبتهم، ويعلق على كل الأحداث ويجيد التواصل المجتمعي في الوقت المناسب.
يتضح أن ثمة بعدا جغرافيا كان يجب إدراكه وفهمه لكيفية التعامل مع هذا التراث اللامادي من قبل السلطة الشرعية والتحالف العربي. أليس هذا ما تريد الوصول إليه؟
نحن نتكلم عن تعدد جغرافي وثقافي، وحتى في اللهجات بين المناطق، تختلف لهجة أبناء تعز وإب عن صنعاء عن حضرموت عن مأرب عن شبوه وعن تهامة.. إلخ. ومثلها في بعض العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة.
ومن حيث الموروث الثقافي اللامادي، فاليمن هو البلد العربي الذي لديه أربعة حكماء تراثيين، مقارنة بباقي العالم العربي. ففي القسم الأفريقي من العالم العربي، يعد الحكيم اليمني المعروف أبو زيد الهلالي (صاحب السيرة الهلالية) حكيم شمال أفريقيا العربية كاملة من مصر والسودان إلى المملكة المغربية وموريتانيا. وفي اليمن، يعتبر حكيم قبائل بني هلال في شبوة.
وهناك الحميد بن منصور، وهو القاسم المشترك بين اليمن وعُمان والإمارات والسعودية وقطر والكويت والبحرين. وعلي بن زايد حكيم الهضبة اليمنية والجبال العليا من ذمار حتى صعدة، وابن عامر حكيم حضرموت.
والخلاصة أنك ستجد تشابها كبيرا في أقوالهم، إلى درجة التطابق أحيانا. لكن هناك تمايزا يرجع للجغرافيا، والشعور بالتفرد لدى اليمني كتركيب سيكولوجي خاص به. وهذا كان يقتضي من السلطة الشرعية والتحالف استيعابه ووضعه في الاعتبار عند التعامل مع الشعب اليمني، في السلم والحرب.
العمل على استحضار التاريخ الحميري والسبئي اليمني، والعودة إلى قراءة واستيعاب ما كانت عليه الدويلات اليمنية الغابرة كمعين وقتبان وأوسان، والدويلات اليمنية في العهود والحقب الإسلامية، وفهم أسباب بقائها وانتشارها ثم أسباب انهيارها واندثارها.
كل هذا كان ضروريا وملحا بهدف إيجاد آلية عمل مشتركة وخطاب موحد، يأخذ في الاعتبار كل هذا التاريخ العريق وتقسيماته الجغرافية باختلافاتها الثقافية، وتأثيرات تراثها المادي واللّامادي العميق والمتجذر والمؤثر إلى اليوم.
كان يجب القيام بذلك، جنبا إلى جنب مع مساعدة الحكومة في الوجود على الأرض باعتبارها المرجعية للبلد، واستلهام الشخصيات التاريخية التي عملت على توحيد اليمن، وإيقاف مشاريع التجزئة، وإنتاج خطاب إعلامي يعزز لأيديولوجيا الدولة اليمنية القوية بتوحدها، واعتماد التواصل بنوعيه الخطي والخلقي، والشفاهي والمسموع، في التعامل مع البعد السياسي والاجتماعي والثقافي، وحتى التجاري والمالي.