[ تمت إعادة ترميم قاعة السينما وتحويلها إلى صالة أفراح عام 2009 (الجزيرة) ]
على مدار ستة أشهر صدحت حنجرة المطرب المصري الراحل عبد الحليم حافظ بأغنية "يا خلي القلب" في سينما الحمراء بشارع صلاح الدين الأيوبي في القدس ضمن فيلم "أبي فوق الشجرة" الذي أنتج عام 1969.
ستة أشهر استمر عرض الفيلم الذي لقي إقبالا واسعا وتهافتا على شراء تذاكره بين الفئات العمرية المختلفة في القدس، وفي كل مرة كانت تظهر بها كلمة "النهاية" على الشاشة الكبيرة يغادر رواد السينما المكان كل منهم مع عالمه الخاص الذي أخذه إليه الفيلم، وتختفي تدريجيا أصوات باعة الفشار والمشروبات الخفيفة وتُطفأ الأنوار حتى ينتعش المكان مجددا بعرض الأفلام في اليوم التالي.
افتتحت شركة مصايف رام الله سينما الحمراء في القدس عام 1952 إبان الحكم الأردني للمدينة، واعتبر البناء بداية للعمارة المعاصرة في القدس، ونظرا لعدم توفر الحديد المناسب للبناء حينها في فلسطين تم استيراده من إيطاليا بسبب عرض البناية الذي يمتد لـ 18 مترا.
ملتقى اجتماعي
اكتسبت سينما الحمراء بريقا ونجومية استثنائية على مدار 35 عاما، وأضفت للأعياد في المدينة المقدسة رونقا خاصا، واستقبلت ساحتها الأمامية الرجال بالقمصان التي حرصوا على فتح عدة أزرار منها والبناطيل التي امتازت بنهايتها العريضة، كما استقبلت شابات ونساء القدس بفساتينهن القصيرة المزركشة وبعض المحافظات ممن كنّ يرتدين غطاء رأس أبيض يعقدنه عند الرقبة بعقدة ليّنة.
قبيل العرض ترتفع أصوات الباعة في الساحة حثا للزوار على شراء الساندويتشات الخفيفة والمشروبات الغازية والفشار، بينما ينهمك رواد المكان بشراء التذاكر التي صنفت حينها لثلاثة أنواع، أقلها ثمنا تذكرة "القاعة" بستة قروش أردنية وأعلاها ثمنا تذكرة "البلكونة" باثني عشر قرشا أما تذكرة "اللوج" ذات السعر المتوسط فبلغ ثمنها ثمانية قروش.
كلمات الحب والحرب والسلام قيلت بلغات عدة على الشاشة الكبيرة، منها العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية وحتى الهندية.
المسن المقدسي عبد اللطيف سيّد (72 عاما) تردد على دور السينما كثيرا في شبابه وكان يذهب إلى سينما الحمراء مشيا على الأقدام من مدرسة الرشيدية الثانوية التي كان يتلقى تعليمه المدرسي فيها.
يقول عبد اللطيف سيد في حوار للجزيرة نت "لم أكن أملك المال لشراء تذاكر اللوج والبلكونة.. كنتُ وأصدقائي نشاهد الأفلام من القاعة وهي أقل التذاكر ثمنا، ولم يكن لدينا متنفس في القدس سوى دور السينما للترفيه وقضاء أوقات الفراغ".
حالف الحظ سيد بدخول السينما مجانا في كثير من الأحيان، لأن والد صديقه كان يتجه لبيروت وعمَّان بسيارته الخاصة لجلب أفلام السينما فكان يتمكن من إدخال نجله وأصدقائه مجانا لعروض الأفلام.
ذكريات شرحها يطول
نبش المسن المقدسي ذاكرته عن تفاصيل تلك الأيام وقال للجزيرة نت "كان الفيلم يأتي بكيس جلدي أو قماشي مقوى وبداخلة 12 عجلة حديدية تشكل معا الفيلم الكامل.. تمكنتُ من الدخول لغرفة التحكم التي تحتوي على نوافذ صغيرة يجلس بداخلها الشخص المسؤول عن تشغيل الفيلم وكان يطلق عليه اسم (أوبريتر).. خلال العرض كان يتنقل بيننا شبان يحملون صناديق خشبية يبيعون فيها (المشروبات الباردة/ الكازوز) لمن يرغب".
في مطلع سبعينيات القرن الماضي تزوج سيد وبات يتردد على سينما الحمراء مع زوجته ويذكر جيدا أنهما حضرا فيلم "أبي فوق الشجرة" واضطرا للعودة إلى منزلهما في حي رأس العامود في القدس مشيا على الأقدام بسبب انعدام حركة المواصلات العامة ليلا في المدينة حينها.
ضحك مثل الأطفال، وهو يستذكر تفاصيل ذلك المشهد وقال "كانت زوجتي ترتدي حذاء بكعب عال تعبت من السير وجُرحت قدمها من الخلف.. كانت الحياة بسيطة ولتلك الأيام في القدس ذكريات لا تُمحى".
قادنا البحث عن معلومات لهذا التقرير إلى التعرف على المهندس المعماري المقدسي سيمون كوبا الذي ارتاد السينما في شبابه وكُتب له أن يرمم المبنى الذي أُغلق عام 1989، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى ليعاد افتتاحه وتحويله إلى قاعة أفراح ومؤتمرات عام 2009.
وعن المشاعر التي انتابته في المرة الأولى التي دخل فيها المبنى بعد إغلاق استمر عشرين عاما قال "كنتُ أشتري عادة تذكرة اللوج وفي إحدى المرات أدخلتُ معي خلسة بزر عين الشمس وهو من الممنوعات في السينما، أكلت كثيرا منه وفي نهاية الفيلم نظرت إلى الأسفل ووجدت كومة كبيرة فخجلت ونظفت قدر الإمكان.. وعندما دخلت مهندسا لترميم المكان هرولت إلى ذلك المقعد الذي جلست عليه قبل عقود.. ما زلت أذكره وأميزه من بين ستمئة مقعد آخر".
عندما دخل كوبا السينما عام 2007 كان الزمن قد توقف بالمكان قبل عقدين من الزمن فوجد المقاعد متهالكة وشاشة العرض مهترئة وروث الحَمام يملأ المكان، ومئات عجلات الأفلام تنتشر هنا وهناك.
نحو ثلاثة آلاف صورة للسينما قبل الترميم وبعده يحتفظ بها كوبا على جهاز الحاسوب في المكتب، أبحرنا معه في تفاصيل الزمن الجميل وانسجمنا بشرحه عن الأفلام التي عرضت قديما في القدس، متطرقا إلى مهنة أنعشتها دور السينما، وهي حاجة هذه المؤسسات لخطّاطين يكتبون اسم الفيلم وتفاصيله على ورق أبيض مقوى.
"كانت الكلمات تُكتب عادة بخط أحمر عريض وتُعلق الإعلانات في باب العامود من الداخل وحارة النصارى وأماكن أخرى، وهذه الإعلانات كانت تروج للأفلام، إلى جانب المنشورات التي كانت تصل من خارج البلاد من شركات السينما وتحمل صور أبطال الفيلم واسمه مرفقة مع كلمة (سكوب ملوّن) إذا كان الفيلم ملونا".
توقف عرض الأفلام بالقدس في دور السينما بعد دخول التلفاز إلى البيوت وبعيد اندلاع الانتفاضة الأولى، لكن ما زال المقدسيون من رواد السينما قديما ينبشون ذاكرة تلك الأيام ويدندنون بأغنيات "الهوا هوايا" و"بدع الورد" و"مخاصمني بقالو مدة" وغيرها، ويجدون في ذلك ملجأ يعيدهم لأيام هادئة يجزمون أنها لن تعود مجددا.