لا يكاد يمر مهرجان سينمائي دولي مهم الآن دون أن نجد فيه فيلمًا شاركت مؤسسة الدوحة للأفلام في تمويله، فهذا العام على سبيل المثال، عُرض من إنتاجها فيلم "لا بد أن تكون الجنة" (It must be heaven) للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان في مهرجان كانْ حيث فاز بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين.
كما عرض في فينيسيا "ستموت في العشرين"، أول فيلم روائي طويل يخرجه السوداني أمجد أبو العلاء وفاز بجائزة أسد المستقبل، وفي تورنتو منذ أقل من شهر عرض فيلم "إلى آخر أصقاع الأرض" (To the Ends of the Earth) للياباني كيوشي كوروساوا ضمن 12 فيلمًا آخر شاركت مؤسسة الدوحة في تمويلها.
ولن يجد المتتبع للمهرجانات العالمية فيما حدث شيئا غريبا، ففي السنوات الأخيرة نجحت الأفلام المدعومة من قبل المؤسسة نجاحًا كبيرا في حصد الجوائز والحصول على تقدير الجماهير والنقاد على السواء.
فمن بين الأفلام المهمة التي أنتجتها المؤسسة في السنوات الأخيرة، نجد فيلم نادين لبكي "كفر ناحوم" الذي رُشح للأوسكار عام 2018، و"ذيب" الذي فاز بها عام 2014، و"البائع" (The Salesman) للمخرج الإيراني الكبير أصغر فرهادي الذي نحج أيضًا في اقتناص الأوسكار عام 2016.
يثير كل ما سبق الفضول لدى المتابعين لمعرفة تفاصيل أكثر عن مؤسسة الدوحة للأفلام التي نجحت، في تاريخها الذي لا يتجاوز التسع سنوات، في أن تتحوّل إلى قبلة لصناع الأفلام الموهوبين حول العالم، ومصنع ينتج في كل عام عددًا ليس بالقليل من الأعمال المميزة.
عن المؤسسة
انبثقت مؤسسة الدوحة للأفلام عن مشروع سينمائي آخر سابق عليه، ففي العام 2009 أقامت قطر مهرجان "الدوحة ترايبكا" السينمائي في شراكة مع مؤسسات ترايبكا الأميركية. وفي إثر المهرجان، ارتأت إدارته ضرورة أن يكون في قطر مؤسسة داعمة لصناعة السينما محليا وعالميا، ومن هنا جاءت الفكرة للمؤسسة والتي تبنتها بعدها الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني، رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر ومؤسسة الدوحة للأفلام ورئيسة مجلس إدارة أيادي الخير نحو آسيا (روتا).
وتهدف المؤسسة إلى "إلهام وإبراز جيل جديد من رواة القصص في العالم عبر مزج المواهب المحلية بالخبرات العالمية"، كما جاء في بيانها الصحفي عبر موقعها الإلكتروني، وتتلقى المؤسسة دعمها المالي مباشرة من الحكومة القطرية.
لكن المال وحده، دون إدارة واعية ومتفاعلة، لن يمكّن أي مؤسسة أبدا من الوصول لمثل هذا القدر من النجاح. ولهذا، وحتى نقف على أحد أهم أسباب نجاح المؤسسة، علينا أن نلقي نظرة على إدارتها.
إدارة المؤسسة
تشغل فاطمة الرميحي منصب الرئيسة التنفيذية لمؤسسة الدوحة للأفلام منذ ديسمبر/كانون الأول 2014، وكانت قبلها عضوًا فعالا في المؤسسة منذ بداياتها، فشغلت عام 2009 منصب المستشار الثقافي للدورة الأولى لمهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي.
تمتلك الرميحي وعيا كبيرا فيما يخص أهمية صناعة السينما في عالم اليوم المليء بالكراهية والصراعات. فعبر الأفلام، نكتشف أننا كلنا في النهاية بشر، ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا. تقول الرميحي "ساعدني ذهابي للمهرجانات ومشاهدتي لأفلام حول العالم على رؤية أننا جميعًا نعاني من المشاكل نفسها وتقابلنا الصعاب ذاتها في حياتنا اليومية. فقد أرى قصة تدور أحداثها في أوروبا وتتناول المشاكل نفسها التي أواجهها أنا في بيتي ومع عائلتي. كل هذا جعلني أوقن أن عالمنا الفسيح هذا ليس سوى قرية صغيرة، وأن مشاهدة الأفلام فيه أفضل من مشاهدة الأخبار".
عزز ذلك الإيمان رغبة الرميحي في أن تكون المؤسسة التي ترأسها مركزا عالميا يتقابل فيه صناع السينما من الشرق والغرب على السواء، ليتشاركوا رؤاهم وأحلامهم، وتساعدهم المؤسسة على تحويل تلك الرؤى إلى واقع تكتبه الكاميرا.
كما تعي الرميحي جيدًا الدور الكبير الذي تلعبه السينما في تشكيل هوياتنا الثقافية وصورتنا عن أنفسنا، مما ينعكس في إيمانها بأهمية ما تقوم به مؤسسة الدوحة للسينما في مساعدتها صناع السينما من الشرق الأوسط في أن يجعلوا أصواتهم مسموعة في العالم، وتوضح "عبر الأفلام، وعبر كل أشكال الثقافة والترفيه، نخلق انعكاسًا لأنفسنا، نخلق انعكاسًا لتجربتنا الإنسانية، ما نؤمن به وعادتنا وتقاليدنا ولغتنا. ولهذا، فللعناية بالمجتمع الإبداعي في بلادنا أهمية كبيرة حتى نعكس قصصنا بدقة على الشاشة".
وبجانب الرميحي، يلعب فنان ومخرج عظيم دورا ليس بالبسيط في نجاحات المؤسسة. إنه المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، الذي يشغل دور المستشار الفني للمؤسسة، والذي جاء توليه لهذا المنصب ونجاحه الباهر فيه من أسباب ذاتية للغاية.
يقول سليمان "هناك سبب شخصي وراء حماسي للعمل في هذا المجال، أظنه ينبع مما تعرضت له من رفض مستمر في بداياتي، فقد طرقت أبوابا كثيرة حتى أتمكن من صنع أفلام، وكانت الإجابة دائما تأتي بالرفض سواء عبر الكلام أو الخطابات التي كانت ترسل إلي. ولهذا، نمّت لدي الرغبة في مساعدة الآخرين، ففي هذا المجال، من الصعب جدا أن تجد تمويلا للأفلام، فلا يوجد أماكن للإمدادات المالية ولا منافذ يحصل عبرها المرء ثقافة سينمائية جيدة. ثم جاءت الفرصة من قطر التي رحبت بنا، وتحقق ما أردت".
ولا يمكننا بمكان أن نعزل نجاح مؤسسة الدوحة للأفلام عن الحركة الثقافية والفنية التي تشهدها قطر في السنوات الأخيرة، والتي شملت بناءها لمتاحف ومكتبات على طرز عالمية، واستضافتها فعاليات ثقافية مهمة. فعبر الفن والثقافة، تسعى قطر لأن تخلق لنفسها قوى ناعمة تملك عبرها صوتا ثقافيا قويا ينصت إليه العالم.
تقول عن هذا الرميحي "من تابع تطور قطر في العقدين الأخيرين، سيرى توجهها لرؤية منفتحة للبلد وللشعب وفي الوقت ذاته محافظة على شخصيتها. نتج عن تلك الرؤية إيمان بأهمية الاستثمار في الشخص نفسه، وانتقلت بسرعة للثقافة والفنون، فأنت عندما تستثمر في شخص ما، لا يكفي أن تستثمر فقط في عقله، بل لا بد أن يمتد هذا الاستثمار لروحه وقلبه وعينه. ومن هنا، بدأت المتاحف تبنى، والفنون تدرس في المدارس منذ سن صغير، وهكذا، فقد كان التطور الطبيعي لتلك الحركة أن تدخل السينما إلى البلد كونها الفن الأهم حول العالم الآن".