[ بدر شاكر السياب ]
يُكتب فن السير الذاتية في العادة نثرا، لكن القالب الشعري يمنحه متعة وجمالا إضافيين، إذ سجل بعض الشعراء سِيَرهم الذاتية في قصائد، واستطاعوا تطويع القالب الشعري لاستيعاب ملامح من سيرهم الذاتية.
وتبدو قصائد السير الذاتية امتزاجا للفنون الإبداعية ونوعا هجينا من فني الشعر والسرد، ورغم ندرتها وعدم انتشارها فإن النماذج القليلة التي أجادتها نجحت في فتح نوافذ إبداعية جديدة عبر دمج جنسين أدبيين معا.
ورسم الشاعر العراقي الذي سجل كثيرا من أحداث حياته في قصائده عبد الوهاب البياتي صورة لصباه بالعراق في قصيدة تحمل عنوان "مذكرات رجل مجهول" قائلا:
13 مارس
أعرفت معنى أن تكون؟
متسولا، عريان، في أرجاء عالمنا الكبير
وذقت طعم اليتم مثلي وضياع؟
أعرف معنى أن تكون؟
لصا تطارده الظلام
والخوف عبر مقابر الريف الحزين
وعاش البياتي حياة التنقل والترحال التي أثرت على شعره "المنفي"، وفي شعر بدر شاكر السياب كثير من الإشارات لقصص من حياته بما في ذلك تجاربه في الحب ومعاناته مع المرض والغربة، وبعد أن عاد إلى البصرة وهو يعاني المرض وكتب قصيدة "من ليالي السهاد" التي يقول في خاتمتها:
وعدت إلى بلادي يا لنقلات إسعاف
حمان جنازتي منمددا فيها أئن رأيت (غيلانا)
يحدق بانتظاري في السماء وغيمها السافي
وما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا
ويفجأني النذير بأن أعواما من الحرمان والفاقة
ترصد بي هنا في غابة الخوذ الحديدية
غريق في عباب الموج تنحب عنده الغاقة
تئن الريح في سعف النخيل عليه ترثيه
قصائده الحزينة بين أوراق من الدفلى أو الصفصاف تبكيه
وتعد "القصيدة السيرذاتية" دليلا على إمكان الدمج بين جنسين أدبيين، فهي تجمع السرد للسيرة الذاتية مع الشعر وتفتح المجال واسعا أمام الشعر لاحتواء خصائص النص السردي الذي يصبح بدوره متداخلا مع القصيدة الشعرية، في دليل على إمكانية انفتاح النصوص الإبداعية على بعضها.
وبينما تتلاقى "أنا المؤلف" والسارد، مع "أنا الشاعر" يبدو نص القصيدة السيرذاتية الشعري مختلفا عن نظيره النثري، فالقصيدة السيرذاتية قائمة على اللغة المكثفة والانتقائية، ولا تستطيع مجاراة المنحى التفصيلي للسرد النثري رغم اشتراكهما في تقنية السرد الاسترجاعي الأدبية.
سيرة ذاتية شعرية
ويمكن العثور على ملامح لسيرة ذاتية شعرية في الشعر الجاهلي، مثلما هي الحال في معلقة طرفة بن العبد الحافلة بالأحداث، ومعلقة عنترة التي ضمنها جوانب من حياته وقصته، إذ كان التعبير الشعري هو الرائج آنذاك.
وفي العصر الحديث يبرز شعراء صاغوا سيرهم الذاتية أو أجزاء منها بالقصائد مثل الفلسطيني أحمد دحبور والعراقي يوسف الصائغ، واليمني المعاصر حسن عبد الله الشرفي، وحتى نزار قباني الذي روى في قصيدته الشهيرة "بلقيس" قصة حبه وحياة المرأة التي هام بها.
وكتب الشاعر والأديب التركي الشهير ناظم حكمت سيرته الذاتية في قصيدة منظومة بالتركية، وسجل فيها مراحل من حياته بدءا بالطفولة وحتى الكهولة بما في ذلك تجربة سجنه وتنقله بين البلدان، ويقول في "سيرة ذاتية".
وُلدتُ في 1902
لم أعد أبدا إلى مسقط رأسي
أنا لا أحب العودة إلى الوراء
في الثالثة كنت أعمل حفيدا لأحد الباشاوات في حلب
في التاسعة عشرة طالبا في الجامعة الشيوعية في موسكو
في التاسعة والأربعين عدت إلى موسكو كضيف لحزب التشيكا
وكنت شاعرا منذ أن كنت في الرابعة عشرة
ويكمل حكمت قصيدته راويا مختصرا لسيرته بما في ذلك تقلباته السياسية وتجربته في السجن لـ12 عاما والمنفى والهروب واللجوء والتنقل بين البلدان، وكتب في برلين الشرقية مطلع الستينيات من القرن الماضي قائلا:
في الثلاثين أرادوا أن يشنقوني
في الثامنة والأربعين أن يمنحوني جائزة السلام
وهذا ما فعلوه
في السادسة والثلاثين افترشت أربعة أمتار مربعة من الإسمنت المسلح طوال نصف عام
في التاسعة والخمسين طرت من براغ إلى هاڤانا في ثماني عشرة ساعة
لم أر أبدا لينين ووقفت أراقب تابوته في ال 24
في ال 61 القبر الذي أزوره هو كُتـُبُهُ
حاولوا أن يزيحوني بعيدا عن حزبي
ولم ينجحوا
ولا انسحقت أنا تحت الأصنام المتهاوية
في ال 51 أبحرت مع صديق شاب عبر أسنان الموت
في ال 52 قضيت أربعة أشهر راقدا على ظهري بقلب مكسور
منتظرا الموت
كنت غيورا على النساء اللاتي أحببتهن
لم أحسد تشارلي تشاپلين أبدا
خدعت نسائي
لم أغتب أصدقائي مطلقا
شربت ولكن ليس كل يوم
كسبت مال خبزي بأمانة ويا للسعادة
وهكذا سجل الشاعر سيرته الذاتية عبر وسيلته المفضلة أي ديوان الشعر بدلا من الكتاب النثري المعتاد.