[ يرتبط الشعر والغناء البدوي بالصحراء والخيام وشاي الزردة المعد على الجمر (بيكسابي) ]
والصبر ما قضى حاجات .. مليت والرجا بابه قفل
"الغِنّاوة" هي قصيدة البيت الواحد المُلغِز المشحون بالمشاعر، مُجَهّلة النسب (وفقا لأعراف القبيلة) عند العرب القيسيين (المغاربة) في بلاد طبرق بليبيا، والشرقية وغرب النيل بمطروح والفيوم بمصر. وقد حظي هذا التقليد الأدبي والشعري بجهود بحثية من رحالة وأساتذة أدب وفولكلور.
و"العَلَم" هو الجبل العالي أو المنارة، لكنه هنا محبوب يستحيل الوصول إليه: امرأة شريفة وجميلة عالية القدر بعيدة المنال صاحبة عقل وأدب، أو رجل مشهور كريم وبطل وشهم.
والغناوة رسالة وجدانية موجهة إلى معشوق مُضمَر، يطلق عليه توريةً "عَلم"، يتوجه إليه الخطاب الشعري بالشكوى والنداء والإخبار؛ ويكنّى عنه بـ"عَلَم" يعرف نفسه فلا يحتاج تعريفا.
تقول أستاذة الأدب العربي في جامعة "أريزونا" ميرال الطحاوي -للجزيرة نت- إن الغناوة مشحونة بدلالات تعبر عن قسوة الفراق، وتتغزل بلا فحولة، وتصف مشاعر الفقد والرجاء والتفجّع والبكاء ورثاء الذات، وتصوّر لوعة الحب ومواجعه كداء لا شفاء منه إلا بالصبر، مما جعلها أقرب وجدانيّا إلى خطاب النساء الشعري في التعبير عن الفجيعة والرثاء في الشعر الكلاسيكي والشعبي (العَدِيد).
خطاب شعري موازٍ
بدورها تقارن الباحثة الأميركية ليلى أبو الغد، الغناوة شكلا وبلاغةً بشعر "الهايكو" الياباني، لكن تجدها أقرب إلى "البلوز" الأميركية ذات الأصول الأفريقية، من حيث المحتوى والرقة والعاطفية.
ويُقارَن تعبير الغناوة عن هشاشة الذات الإنسانية (خاصة النسوية) وحزنها، شكلا وأداءً، بـ"اللاندي"، أي شعر قبائل الباشتون الأفغانية الغزلي "الوجيز".
كذلك، هناك "التبراع" أو الشعر الحساني النسائي بالمغرب، وتبدعه الحسانيات تغزلا بالرجل، في سرية وكتمان وتقييد للتداول بحكم الأعراف البدوية. و"التَّبْريع" كالغناوة بيت شعر من شطرين بنفس الوزن والقافية.
وتمثل هذه الأنماط خطابا شعريا موازيا يعبّر عن هامش اجتماعي غير رسمي: عشاق تعساء، رجالا ونساء. وهو كذلك شعر الحياة اليومية والعاطفية للمهمشين، وشعر يختصر تجربة شعورية عميقة في سطر شعري مكثف.
تلاحظ استشارية الطب النفسي المهتمة بالنقد الفني والفلكلور، نهلة الإبياري -في حديث للجزيرة نت- سماتٍ مشتركة في منتج مشترك من ثقافات مختلفة، نظرا لعوامل اجتماعية وثقافية متشابهة.
وتشبهه بأجناس غزل قصير يجمع بينها كتمان المشاعر خاصة للنساء وانعدام حرية التعبير لديهن، فلا سبيل لبث المشاعر إلا بأسلوب ملغز شديد الإيجاز، وكأن الشاعر يرغب في إنهائه بأقصى سرعة قبل أن يُنسب لصاحبه.
علم وسلطنة
ارتبط فنّ "العَلم" بمُحِب أسطوري مترحل في الصحراء، يسمى "عَلم"، مر بقصر مغلق الأبواب، بقفل كبير، مكتوب عليه:
مفتاحه مع لولاف العين .. قفلها صاك يا علم
أي باب قلبي موصد يملك مفتاحه محبوب (لولاف) صادق يا علَم.
كان ذلك القصر لأميرة صحراوية اسمها "سلطنة"، فتعلق قلب المحب الأسطوري المرتحل بالأميرة المُحتَجِبة، وبمراسلة شعرية بالغناوة، حاول العاشق أن يخطب ودّها ويبثها تحنانه ورجاءه.
فتستجيب الأميرة لمراسلاته بأبيات موجزة على شاكلة رسائله. فـ"عَلم" هو العاشق بطل المراسلة الشعرية، و"سلطنة" أميرة بعيدة المنال، تغلق أبواب قصرها دون وصاله، لكنها تفتح قلبها لمشاعر حب تشعلها نيران الفقد والحرمان.
العقل والعين
تلاحظ الطحاوي أن شاعر الغناوة المجهول غالبا ما يعبر في شكواه عن ذاته باستخدام لفظ "العقل" إن كان رجلا، أو "العين" و"الدمع" إن كانت امرأة.
غلاك، لا تخاف عليه .. مصيون بين عيني وهدبها (غلاك: محبتك)
يكسيها ضباب الياس .. العين وين ما راق جواها
(يكسو عيني ضباب اليأس كلما خطر ببالي طيف الحبيب)
العقل لا تزيد عليه رقيق .. عَزِم بكّاي يا علم
(عقلي ضعيف كثير البكاء فلا تزده وجعَا يا محبوب)
العين غارقة في الياس .. وتقول يا نصيبي جيبهم!
(التمني لا يجدي بعد أن غرقت النفس في اليأس)
على رجاك نين تموت .. العين يا علم بات رايها
(نين: حين/حتى. ستبقى العين ترجو لقاءك حتى الموت)
الموح والجِضَر والياس
تتناول الغناوة موضوعات محددة لا تغادرها: النار، الغلا، الصوب، الخطا، الموح، البكا، الصبر، العَلم، العزيز، المرهون، العين، اللوم، الجرح، الياس، لولاف، العيب، الدمع، العنا، القدر، الخاطر، الغنى، العقل، السريب.
وقد تتقاطع معانيها. فالغلا والصوب: محبة، والعَلم والعِزيز ولولاف والمرهون: محبوب. والموح والسريب: فراق. والنار والبكا والجرح والدمع والعنا: أوجاع. والعين والخاطر والعقل: ذات معذبة.
لكن ثلاثي الموح (الفراق) والجِضَر (القدر) والياس (اليأس) هم العدو الأول للمحب كُتِب عليه معاناتها:
ثلاث ذابلاتِ الروح .. تمويح دار ورياف وجِضَر
الموح والجضر والياس .. مكتوب لي نعاني كيدهم
الموح والجضر والياس .. اثلاث في غلانا يقسموا
فهي مفاتيح أساسية حاضرة دلاليا في صيرورة العشق المستحيل، لا يملك العاشق أمامها إلا التسليم. وتغدو اللوعة والألم والشقاء جوهر تجربة العشق. تقول الغناوة:
القدر هو جار الصوب .. اللي عليه يا عين البنا
(القدر قرين المحبة ويقرر مصيرها)
الاستسلام للفراق صورة متكررة في الغناوة، فالشاعر يتصبر بإيمان مطلق أن ذلك قدر لا يمكن تحديه، ويُسَمّى ذلك "أقسام"، أي قسمة ونصيب قدرهما الله لخلقه:
قلت له: فيها ما قضى الله ما ترى .. عليّ وهل في ما قضى الله من رد؟
اتريد يا عزيز تخيب .. وتعاتب على شيء ما قسم؟
يتمظهر التسليم في نصوص تتحدث عن الصبر، وعدم جدوى الشكوى، والتضرع لله ليُنزِل الصبر على المحب الذي كتب عليه اليأس من وصال محبوبه:
لا تعاندي مولاك على عطاه .. يا عين اصبري!
يبدل غلاك بصبر .. المولى اللي ياسك كتب
إن كان في عزيز نصيب .. يجي بغير رادات العرب
مجرودة وشتيوة
تختلف "الغناوة" عن "المجرودة"، القصيدة البدوية الطويلة، شكلا ومضمونا وأداءً. فالمجرودة مقطوعات شعرية رباعية تلتزم الأبيات الثلاث الأولى قافية موحدة، وتتغير قافية البيت الرابع. تتعدد أغراض المجرودة كالقصيدة الكلاسيكية وتُنسَب لشاعرها.
وتظل الغناوة بيتا شعريّا واحدا بغرض شعري محدد، مجهولة المؤلف، مشاعية، يتمثُّلها ويتداوَلها المجتمع القبلي. يتوجه خطابها إلى محبوب مجهول بشكوى وتضرع رومانسي، بعكس المجرودة التي تطارد المحبوبة بغزل حسي صريح ورغبة بإغوائها ويتوجه خطابها للقبيلة بالفخر والتمجيد.
هناك أيضا "الشتيوة"، وهي شطر شعري واحد، يؤدَّى جماعيا تكراريا ويرتبط مضمونيا بأداء "الغناوة" وموضوعها، وتعتبر ابنة "الغناوة"!
كف العرب وغِناوة الصف
تؤدى الغِناوة فرديا دون جمهور أو إيقاع، فيرددها "الغنّاي" ليلا أو نهارا خلف القطيع، ويؤديها رجل أو امرأة في جلسات سمر خاصة، أداءً يتمثل مشاعر تبدو رمزية وغامضة لكنها تصف تجربة إنسانية يستشعرها السامع.
وتؤدى جماعيا في "الصابية" أو "كف العرب" أو "الكِشك": وهو طقس احتفالي يرافق الأعراس والختان، وتسمى "غناوة صف"، وتكون جزءا من نسق شعري يضم "الشتيوة" و"المجرودة".
وتصف الطحاوي كيف يُفتتح هذا الطقس البدوي بـ"الغناوة"؛ كما شهدته باحتفاليات قبيلتها "عرب الطحاوية": يتقدم المؤدي أولا ليترنم بالغناوة بصوت رخيم حزين مشحون بأنات العشق والشوق واللوعة، ثم يتبعه ترديد صف الرجال للشتيوة، ثم يلقي "المجراد" مجرودته.
يصطف رجال القبيلة بملابسهم البدوية ويبدؤون بتصفيق رتيب استعدادا للحفل. تجلس النساء بطرف الساحة في الظلام، خلف أستار بيت العريس. تتقدمهن المسنّات سافرات وتجلس خلفهن النساء الأصغر ضاربات بخُمرهن على وجوههن، مستترات بالظلام منتظرات بدء الحفل بظهور الغنّاي.
ينفرد "الغناي" بأداء "الغِنّاوة" بينما يُظهِر صفّ الرجال خلفه تجاوبهم بترديد "الشتيوة" المناسبة لغناوته. فإذا قال الغناي:
مشى وغاب ولا زول تابعه .. مشى لا رسي ولا زول تابعه
(غاب الحبيب واختفي أثره ولم يعد أحد يجده)
يرد عليه الصف بالشتيوة:
يا لنضار عليه اليَمّة .. يا لنضار عليه اليَمّة!
(يا عينيَّ التزمي يمّته أو ناحيته)
وإن قال الغناي:
كتبت على جناح الطير .. دزيت علم ما جاني نبا
(كتبت للمحبوب وأرسلت لكن لا جواب).
أجابه الصف:
العقل ادبيل روف عليه .. العقل ادبيل روف عليه!
(العقل ذبل حزنا فارأف به)
وإذا قال الغنّاي:
بيني وبينهم ارسام وحدود .. كداب والله يا منام الليل
(لم يتحقق حُلم اللقاء بسبب بعد المسافات)
ردد الصف بالشتيوة:
جرح العين بهن يداوي .. جرح العين بهن يداوي!
(جرح العين يتداوى برؤية الحبيب)
وإن قال الغناي:
شكيت وما قُضي مشكاي .. بكيت وجرح لولاف كادني
تردد الشتيوة:
عَلم بشرافه كاد الناس .. علم بشرافه كاد الناس!
(محبوب كاد الناس بشرفه وعفته)، وهكذا.
يكرر الغنّاي جمل الغنّاوة الشعرية (صَدْرا وعَجُزا) بنسق معهود، وسط هنهنات صف الرجال، ويختمها بالقفلة، فتتلوه "شتيوة" الصف مع تصفيق متواتر.
الحب المستحيل
ثم يأتي غنّاي آخر ليفتتح فصلا آخر يبدأ بترديد "غناوة" تتحدث أيضا عن الفقد والأسى والصبر والبكاء على فراق المحبوب.
تضع الغناوة الجمهور في حالة وجد روحي ورضا بالقدر، فموضوعاتها تمثل صوت القدر يتردد في حلقة دائرية، وميلودراما الحب التي تبدأ بالتشوق والتحنان ومحاولة استمالة المحبوب وتفضي بالنهاية إلى الاستحالة والفقد.
تتقاطع فلسفة العشق وصورة المحبوب في شعر الغناوة مع نظيريهما في الشعر العذري، فالحبيبة هي المخلوقة الوحيدة المتعذرة المنال، هي أسمى في مثالها من أن تكون زوجة، وعليها أن تظل غريبة، وبالتالي أجنبية!
جوهر المحبة في طقس "كف العرب"، كما في الغزل العذري، يكمن في منعَة كائن محبوب تفصله عن العاشق عوائق كثيرة تحيل المحبة إلى أسطورة: "إن نكح الحب فسد".
هكذا.. لا يكون الحب إلا مستحيلا!