من يوم لآخر، يزداد المشهد اليمني تعقيدا، ويستمر قرع طبول الحرب، ويخفت صوت الثقافة ولسان المثقفين أمام صوت المعركة وأطرافها، وتكاد مشاهد "اليمن السعيد" وتراث حضارات سبأ وتقبان وحضرموت أن تختفي أمام مشاهد الدمار والدماء، في مشهد قاتم من ركام الحرب التي دخلت عامها الخامس، فأين موقع الثقافة والمثقفين، أفرادا ومؤسسات، في المشهد اليمني المعقد؟
ينوه الشاعر والكاتب محمد عبد الوهاب الشيباني إلى ما أسماه "الاستقطابات القوية" التي امتدت لشريحة المثقفين، وبدؤوا إثرها التحوصل داخل هوياتهم الأضيق (السياسية والمناطقية والطائفية).
ويضيف الشيباني –في حديث للجزيرة نت- "حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة التي ينتمون إليها قادرة على حمايتهم والتعبير عن استقلاليتهم، وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها؛ صاروا مع الوقت عنوانا لانقسام المجتمع، عوضا عن وحدته وتماسكه، بل صاروا عنوانا لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات".
ويرى الشيباني أن "تدمير الثقافة بالإفساد، وتفريغها من مضامين الحداثة والحرية على مدى سنوات طويلة، أفضى إلى إفساد دورة الحياة في المجتمع، بما فيها الحياة السياسية ونخبها، التي سرعت -بفعل فسادها- تعظيم هذا الانقسام المميت في المجتمع، الذي لا يمكن أن نتجاوز تشظياته، إلا بنبذ الحرب وتجريمها بذات الكيفية النابذة للاستبداد والقهر".
ويتابع "سيعرف الجميع -وعلى رأسهم "أهل الثقافة"- مكامن الخلل وجوهره، ولن يكون أمامهم سوى التعاطي معه بمسؤولية، وسيكتشفون أيضا أن قوى الحرب (التي يصطفون معها الآن) هي على طول الخط ضد إراداتهم ككائنات سلام ومحبة مهما رفعت من شعارات المظلومية والوطنية المبتذلة هنا وهناك".
الثقافة كرفاهية
من جهته، قال الكاتب والمفكر عبد الباري طاهر إن المشهد في اليمن كله هو مشهد الحرب والأوبئة الفتاكة بأنواعها، والمجاعة التي تطول 80% من الناس.
وأشار طاهر إلى أن الشعب اليمني منذ أكثر من أربعة أعوام مهجوس بالحروب المتناسلة والمتواصلة، وبهمّ المعيشة والحياة، ومستغرق في التفكير في الخروج من مستنقع الحرب الأهلية والإقليمية والتدخل الدولي. وهنا يكون الحديث عن الثقافة فائضا عن الحاجة، ولا يعبر عن الهم المعتم المعقد.
وأضاف للجزيرة نت "مع ذلك، فالثقافة كالحياة، بل هي الحياة لا تموت، وهي دائما أقوى من الموت، وأقدر على البقاء، ولكنها تواجه المخاطر الدائرة التي تغتال الحياة". مؤكداً أنه في حال شهدت البلاد "أوتاد الأمن والسلام والاستقرار، فهذه هي البيئة الطبيعية لازدهار الثقافة ونموها وتطورها".
ثقافة السلاح والقات
"إنهم بلا موقع أصلا، ولو كان لهم موقع لجاء المسلحون وانتزعوه منهم"، كما يقول الروائي وجدي الأهدل، في سياق حديثه عن موقع المثقفين في مشهد بات أكثر تعقيدًا.
ويتساءل وجدي في حديث للجزيرة نت: "إذا قمت بجولة في شوارع صنعاء فأين ستجد الزحام؟ هل ستجده عند: المكتبات؟ دور السينما؟ قاعات المسرح؟ صالات الفنون التشكيلية؟ المؤسسات الثقافية؟ كلا، ستجد اليمنيين يتزاحمون في أسواق القات".
ولهذا يقول وجدي إنه "لا بد من أن نربط بين المقدمات والنتائج؛ فهناك إحصاءات تشير إلى أن اليمنيين ينفقون نحو ستة مليارات دولار سنويا على استهلاك القات، لكن ماذا لو استثمروا هذه المبالغ في تثقيف أنفسهم؟ مثل شراء الكتب وحضور العروض المسرحية والسينمائية والندوات الثقافية. هذا التحول –إذا حدث- كفيل بتفكيك كافة العُقد السياسية، وخلق أمة قوية ومتماسكة ذات منظومة سياسية متطورة".
ووفقاً لوجدي الأهدل، فإن "الكتب ليس لها سوق، لذلك لا أثر لدور النشر في اليمن، في حين يُحقق السلاح رواجا. والكتب التي تصدر إنما تُطبع على حساب المؤلف، وبالتالي فإن غياب صناعة النشر يوازيه في المقابل ازدهار تجارة السلاح". مشيرًا إلى أن "المواطن اليمني هو الذي حضَّر نفسه للحرب، ولم يُحضِّر نفسه للسلم؛ فالحرب التي تجري اليوم على الأرض اليمنية استدعاها السلاح المكدس في كل بيت يمني".
مثقفو المنفى والمهجر
ويشير الكاتب والسينمائي اليمني المقيم بفرنسا حميد عقبي إلى أنه مع دخول الحرب عامها الخامس لم يعد المثقف اليمني بالداخل قادرا على الظهور، ولا تعيره أي الأطراف اهتمامًا، "إلا إذا قبل أن يكون بوقا أو شاهد زور".
ويضيف عقبي للجزيرة نت "الحرب تسببت في دمار تغلغل داخلنا بكل قسوة ووحشية. وهناك تصحر يزداد قسوة. كل الأطراف المتصارعة تريد المثقف أن يناصر توجهها أو يصمت".
ويتابع أن أغلب المؤسسات تكاد تكون اندثرت، وما بقي نراها مشلولة، ومع كل ساعة حرب وصراع تزداد الانهيارات، ويضيق فضاء التعبير، ويتضاعف العنف المجتمعي بشكل عام.
ويلفت عقبى النظر إلى أنه "في الخارج نرى مئات من المثقفين اليمنيين وصلوا إلى بقاع مختلفة، خاصة مصر، لكن للأسف لم يتشكل مشهد ثقافي يمني في القاهرة مثلا رغم وجود زخم، وقد يرجع هذا لضيق مساحة التعبير والخوف والحاجة أيضا".
ويضيف اليمني -الذي يتابع أحوال بلاده من فرنسا- "هنا مثلا في أوروبا يظل وصول المثقف اليمني صعبا، وإن وصل واستقر نجد أن كل واحد يخطط ويتحرك في مشروع فردي وخاص، ثم إن سفارات اليمن هنا لا تقدم مليما واحدا كدعم لمثقفي اليمن ممن يقومون بتنفيذ أي فعل ثقافي أو فني".
معركة المثقفين
الروائي محمد الغربي عمران رئيس نادي القصة اليمنية "إل مقه" ينظم فعالية أسبوعية للنادي كل أربعاء بمقره في صنعاء، وينظم كذلك أنشطة لمؤسسة بيسمنت الثقافية في ظل شلل ثقافي مريب يضرب مدينة صنعاء كما يضرب بقية المدن على طول البلاد وعرضها.
يقول الغربي عمران متهكماً "موقع الثقافة موجود وبقوة، لكنها ثقافة القتل وتزييف الحقائق، وثقافة التخوين والعمالة؛ فكل الأطراف تجيد تلك الثقافة. أما الأدب والفن وثقافة السلام والحرية فمُحاربة بتهمة تثبيط همم الناس للحرب والقتال".
ويسرد الغربي عمران بعضا مما يتعرض له المثقف من ممارسات في حال انتقد السلطات قائلاً –في حديث للجزيرة نت- "بالنسبة للأفراد من أدباء وفنانين فهم ملاحقون، ومكانتهم قيد وتكبيل، لأنه لا صوت فوق صوت الرصاص، ولا صوت فوق صوت المعركة والتخوين".
ويضيف عمران أن كل المؤسسات مغلقة، وكثير من الأدباء والمثقفين في المنافي، والبعض يرضخ صامتا خوفا من مساءلة أو ملاحقة قد تستهدفه نتيجة لتعليق على فيسبوك، أو لواشٍ في مقيل. أما أن يكتب أو يقول رأيه فذلك قد يعرضه للاتهام والملاحقة بتهمة الخيانة. ويختم "الكل يمزق الثقافة ويلاحق المثقف، للأسف".
ويتحدث الكاتب أحمد ناجي النبهاني عن "مليشيات حاكمة في صنعاء وفي عدن على السواء"، قال إنها "حددت موقفها بوضوح على الضد من القيم المدنية، لكن هذا لا يعني أن يستسلم المثقف الذي من واجبه أن يدعو للاصطفاف ضد كل أشكال استلاب الشخصية الوطنية ومن أجل استعادة الدولة اليمنية ومؤسساتها الدستورية".
"بيسمنت" تضيء
وفي ظل هذا المشهد القاتم تضيء أنشطة "مؤسسة بيسمنت الثقافية"، التي لفتت الانتباه إليها في ظل ما تمر به المؤسسة الثقافية غير الرسمية اليمنية (إجمالا) من انكسار.
وتقول رئيس مؤسسة "بيسمنت" شيماء جمال للجزيرة نت "نحن في بيسمنت لا ندير مؤسسة ثقافية، نحن ندير شغفنا، ونضحي بكل ما أمكن من أجل استمرار العمل.
وتضيف "كثيرًا ما انتُقِدنا وكثيرًا ما طُلِب منا التوقف عن العمل أو تغيير التخصص في ما ننفذه من أنشطة، بما يتواءم مع شكل المرحلة. وقد كنا على هاوية الإغلاق أكثر من مرة لأسباب مالية، ولكن الإيمان بالفكرة يجعلنا نستمر".
النشر من خارج الحدود
في المهجر، استطاع الشاعر والباحث اليمني هاني جازم الصلوي بإصرار تأسيس مؤسسة للدراسات والترجمة والنشر، هي "مؤسسة أروقة"، وأسهمت "أروقة" في طباعة كتب لأدباء وكتاب يمنيين، كما تنشط عربيا وفي الترجمة. أما المطابع ودور النشر وحركة الإصدارات والكتب في الداخل فهي مشلولة تماما.
وفي الرباط المغربية، بدأ الشاعر اليمني أحمد الفلاحي -الذي يقيم هناك منذ ثلاث سنوات- مشروعا أدبيا حداثيا اسمه "مجلة نصوص من خارج اللغة"، تصدر فصليا بعد أن صدرت شهرية، وتتميز بكونها يمنية بصيغة عربية وعالمية وبإدارة تحرير متنوعة.
وفي باريس، أسس الكاتب والناقد السينمائي حميد عُقبي "المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح". وبين فترة وأخرى، يصدر لكاتب يمني هنا أو هناك كتابا إبداعيا بعد أن أُغلقت دور النشر اليمنية أبوابها، تماما كما هي حال أبواب اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين المغلقة إلى أجل غير مسمى، ليخفت صوت اتحاد للأدباء والكتاب كان له دوره الوطني والنضالي العريق، لا سيما المساهمة في وحدة اليمن في عام 1990.
روايات يمنية
وصدرت مؤخراً روايات لأهم كتاب الرواية اليمنية، ومنهم وجدي الأهدل، وعلي المقري، والغربي عمران. وشعرياً صدرت كتب لشعراء معظمها طبعت بالخارج على نفقة أصحابها.
وبينما تواصل مؤسسة بيسمنت ونادي القصة في صنعاء نشاطا ثقافيا يبدو بصيص ضوء يبدد بعضا من الظلام والعتمة؛ تبرز أنشطة غير منتظمة لمؤسسات أهلية في صنعاء وعدن وحضرموت وتعز وغيرها.
ومؤخراً، بدا أن نشاطا لـ"صالون نجمة الثقافي" في صنعاء في طريقه للانتظام، وهو منتدى حديث النشأة تماما كمنتدى "الحداثة والتنوير" بصنعاء أيضا، الذي يغيب أكثر مما ينشط.
ويكاد اليمنيون في كل مدن البلاد لا يتذكرون متى أقيم آخر معرض دولي للكتاب بصنعاء أو بعدن، مما دفع مبادرات أهلية في الآونة الأخيرة لتنظيم معارض مصغرة للكتاب بين حين وآخر، في محاولة لإنعاش مشهد منكسر وحزين ويمضي إلى حافة الغياب أو التغييب.