[ دار الأوبرا الخديوية شاهدة على نمط التحديث المعماري الذي قام به الخديوي إسماعيل في القاهرة ]
اعتبرت حديقة الأزبكية في القاهرة بمثابة قلب ومركز عاصمة الأسرة العلوية طوال القرن الـ19، فبعد ردم البركة التي توسطت الميدان أنشئت حديقة حديثة على يد المهندس الفرنسي باريل ديشان بك، وأقام حولها الخديوي إسماعيل المسرح الكوميدي الفرنسي ودار الأوبرا الخديوية.
وأكسبت أفكار الخديوي المدينة وجها آخر عبر عنها بقوله "لم تعد بلادي في أفريقيا، نحن قطعة من أوروبا"، ومع ذلك يقول المؤرخون إن نمط التحديث المعماري الذي قام به إسماعيل حوّل القاهرة لمدينتين مختلفتين تماما وليس مدينة واحدة، إذ تمايزتا تماما من الناحية المعمارية والاجتماعية.
ومع ذلك أصبحت الحديقة والمسرح والأوبرا الخديوية مقصدا لاحتفالات المصريين والأجانب، بما في ذلك عيد جلوس الخديوي، ولعبت الموسيقى العسكرية وسرادقات الاحتفالات ومشاهير المغنين والتخطيط الحضري للمدينة والفنادق المطلة على المكان دورا كبيرا في تحول "الأزبكية" من مجرد حديقة إلى ثقافة وطبقة اجتماعية جديدة.
القاهرة الإسماعيلية
يرى الأكاديمي بجامعة ديوك، آدم مستيان، أن الخديوي إسماعيل خامس حكام الأسرة العلوية الذي حكم من 1863 إلى 1879 كان له "مخطط استبدادي" يهدف لتحويل القاهرة ثقافيا لتصبح عاصمة الأسرة العلوية الحاكمة في المملكة المصرية.
وهناك اتفاق بين المؤرخين على أن زيارة الخديوي للمعرض العالمي بباريس عام 1867 كانت حاسمة في تنفيذ مخططه، إذ بهرته العاصمة الفرنسية فطلب من نابليون الثالث أن يكلف مخطط باريس الفرنسي جورج أوجين هوسمان بتصميم القاهرة الخديوية التي يعتزم إنشاءها.
وبعد قرابة خمس سنوات من الإعمار السريع، افتتح الخديوي عام 1872 شارع محمد علي الذي يربط باب الحديد والقلعة، ثم افتتح كوبري قصر النيل وزينه بأربعة من الأسود التي نحتت في إيطاليا، وافتتح كوبري أبو العلا الذي صممه المهندس جوستاف إيفل مصمم البرج الشهير بباريس الذي يحمل اسمه.
وألهمت باريس الخديوي للتحضير لمراسم حفل افتتاح قناة السويس عام 1869، واقترض إسماعيل أموالا طائلة ليكون قادرا على إقامة الحفل الضخم، بحسب دراسة مستيان المنشورة بمجلة التاريخ الحضري التي تصدرها جامعة كامبريدج.
وفي وقت لاحق جرى افتتاح شارع كلوت بك، ودار الأوبرا المصرية عام 1875 التي توسطت أهم أحياء القاهرة آنذاك، واعتبرت شاهدا على حب الخديوي للفن وأفكاره التحديثية.
وإضافة لذلك أنشأ إسماعيل سككا حديدية وخطوط ترام داخل القاهرة، وحول مجرى النيل، وأسس شبكة المياه والصرف الصحي والإنارة، وبنى الأرصفة والحدائق.
قصة مدينتين
كان ثمن إصلاحات إسماعيل هو الديون الباهظة، إذ فرضت بريطانيا وفرنسا رقابة مزدوجة على الشؤون المالية المصرية، وتدخلت القوتان الأوربيتان للضغط على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي أصدر فرمانا بعزل الخديوي إسماعيل وتعيين وريثه توفيق باشا، الذي أصبح مسؤولا عن تركة ثقيلة من الديون.
وتعتبر الباحثة الأميركية المختصة بعلم الاجتماع جانت أبو لغد أن أفكار إسماعيل المتخيلة ومقارنته بين باريس و"عاصمته المتداعية" هي ما دفعه لقرار "تلميع القاهرة" بحسب دراستها "قصة مدينتين: أصول القاهرة الحديثة".
وأطلق المؤرخ والمستشرق فرنسي آندريه ريمون على تحولات القاهرة وصف "التطهير"، ويلاحظ العديد من المؤرخين هذا النمط من "المدن المزدوجة" في البلدان غير الغربية في جميع أنحاء العالم، وتكون هذه المدن إرثا مشتركا من الماضي الاستعماري والمدن القديمة، لكن مع تزايد النزعات الاستقلالية والوطنية والأجيال الجديدة يجري ببطء مزج النموذجين، لكن قد يستغرق الأمر أجيالا قبل إزالة الحدود بين المدينتين المتداخلتين.
الحديقة والموسيقى
وأنشأ الخديوي حديقة الأزبكية التي سرعان ما تحولت ساحة لحفلات العامة والنخبة والجمعيات بعد الانتهاء من تشجير الحديقة، وأقيمت على مقربة منها دار القضاء العالي ومستشفى وفنادق شبرد والكونتيننتال وغيرها.
ومن أجل تنفيذ مخططه سعى الخديوي لجعلها مقرا ترفيهيا للشعب أيضا فشهدت الحديقة احتفالات شم النسيم والمولد النبوي، وشهد الحي انتعاشا كبيرا بحرص الخديوي إسماعيل على أن يكون تمثيلا لدولته الجديدة فأنشئت إلى جانب الأوبرا والكازينوهات والمقاهي التي تقدم القهوة والتبغ والحشيش والموسيقى.
واعتبرت هذه التطورات في الأزبكية -خاصة مع المقاهي الأجنبية واليونانية والإيطالية والأرمنية- نوعا من فقدان القاهرة لوجهها العربي، وبالإضافة لذلك أصبح الحي بوابة دخول للعاصمة باحتوائه على ميناء بولاق ومحطة القطار.
وأصبحت الأزبكية بوابة للهجرة العمالية من أرياف مصر، وبالإضافة لذلك أصبحت الحديقة وضواحيها (مثل الموسكي) منطقة تسوق، وظلت القصور الملكية أيضا تبنى على مقربة من الميدان بحسب دراسة مستيان المنشورة بمجلة جامعة كامبريدج.
الاستقلال عبر الفن
ولا يمكن فصل تخطيط الأزبكية عن سياسات الخديوي الاستقلالية، إذ حاول إسماعيل عبر حفل قناة السويس دعم المسارح بسخاء والإنفاق على المؤسسات الفنية الفرنسية والإيطالية والمجلات العربية أن يحوز اعترافا دوليا حتى ولو كان على حساب الهدم العدواني للمناطق القديمة.
وكانت الحدائق العامة الحديثة التي تمزج الترفيه بالصحة العامة "جنونا عصريا" في الإمبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية الجديدة، وربما استلهم الخديوي إسماعيل نمط حدائق باريس العامة أو حدائق إسطنبول مثل حديقة تقسيم، بحسب دراسة مستيان المنشورة بمجلة التاريخ الحضري.
ولأن هذه الاهتمامات الخديوية لم تلب مطالب عموم المصريين الذين كانت همومهم مختلفة، فقد فسرت إصلاحات الخديوي إسماعيل بكونها "تحديثا استبداديا".
وقدمت الأوبرا عروض الباليه الفرنسي الذي يرمز لنمط ترفيهي أوروبي وغربي بامتياز، وأسهمت في صناعة نخبة حضرية جديدة شملت العرب والأتراك والمصريين واليهود والأرمن واليونانيين والإيطاليين الذين شكلوا جميعا جانبا من الثقافة المصرية التحديثية، وتكون جمهور الأوبرا من البلاط المصري العثماني والبرجوازية الأوروبية المهاجرة إلى مصر، وفي المقابل قدم السيرك عروضا جماهيرية جرى الإعلان عنها باللغة العربية.
وتظهر هذه الإصلاحات الإسماعيلية جانبا من الدولة الجديدة التي حاول الخديوي بناءها بأفكار تنويرية تجمع بين التأثيرات الأوروبية والعثمانية، ومع ذلك لم يدم مشروعه طويلا فسرعان ما أصبح ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حالياً) الذي أراد إسماعيل أن يشبه الشانزلزيه مقراً لثكنات جيش الاحتلال البريطاني منذ وصول القوات الإنجليزية إليه عام 1882.