حين توصف النساء بـ "الفتوات"، لا يتبادر إلى الذهن سوى مشاهد سينمائية كوميدية أحيانا، ومأساوية في أحيان أخرى، فهي مهنة تمتهنها بعض السيدات خاصة في الأحياء الشعبية المصرية، ومن ضمن مهام عملهن الذهاب لمسكن أحدهم، بعد تلقي مقابل مادي لسبه أو ضربه، نظير تحقيق غرض معين للكف عن إيذائه، ولاعجب في أن بعضهن كان يتم استغلالهن أثناء الحملات الانتخابية لتحقيق مكاسب سياسية.
أما قديما فقد اختلف الأمر حيث كانت "الفتوات" النساء يفرضن سيطرتهن على حواري كاملة، ويقهرن الرجال بقوة عضلاتهن، وكن أكثر بأسا من هؤلاء الفتوات الذين قرأنا عنهم في قصص نجيب محفوظ.
شهيدة الوطن
استعرض الكاتب مكاوي سعيد في كتابه "القاهرة وما فيها" قصة "أم شكرية"، "فتوة" بورسعيد التي كانت بحسب الكاتب أطول من أطول رجل، ضخمة ذات قوة هائلة، ترتدي جلبابها البلدي المشقوق مثل الرجال محزمة رأسها بخمارها الأسود.
بدأت علاقاتها مع الفتونة عندما كانت تهب لنجدة جاراتها المستضعفات من إهانة زوج وبطشه أو من صاحبة بيت عنيدة، وكان أجرها نظير ذلك قفصا من الدجاج، أو زوجين من البط أو كبشا كبيرا، ولا تبالي إن سُجنت شهرين أو أكثر لتعود لممارسة نشاطها مرة أخرى، وعلى صاحب المشاجرة أن يستقبلها على باب القسم بالمزمار والطبل البلدي، ويقيم الولائم احتفالا بخروجها.
وبعد العدوان الثلاثي على مصر تخلت عن حياة "الفتونة"، وباعت كل ممتلكاتها وحملت الأموال إلى قسم الشرطة لشراء أسلحة باسمها لتكون نواة للمقاومة الشعبية.
لم تكتفِ بذلك بل استغلت قوتها الجسدية للقيام بعمليات فدائية ضد جنود العدوان، إلى أن تلقت ضربة قاتلة من جندي إسرائيلي استشهدت بعدها مباشرة.
مهر الفتوة.. مشاجرة
اسمها الحقيقي جليلة، سيدة فارعة الطول مفتولة العضلات، كانت ترتدي الجلباب البلدي والكوفية وتمسك في يدها "الشومة" -عصا خشبية غليظة تستخدم في الضرب- شأنها شأن الرجال، بل إنها كانت قادرة على التصدي لأقواهم.
كانت تمتلك مقهى يحمل اسمها في منطقة الجيزة، وكان ملتقى لفتوات المنطقة والمناطق المجاورة، كما كان يأتي إليها الناس من كل حدب وصوب ليروا تلك "الفتوة" ذائعة الصيت.
رآها أحد المواطنين ويدعى عباس، حيث كانت تخوض معركة حامية فأعجب بشخصيتها القوية وطلبها للزواج فما كان منها إلا أن اشترطت عليه أن يثبت شجاعته فأخذته إلى مشاجرة وطلبت منه التدخل لفضها ليثبت أحقيته في الزواج منها، فدخل المشاجرة واستطاع أن يفضها بسهولة، فما كان منها إلا أن تزوجته ليصبح مهرها "مشاجرة".
وكانت سكسكة تتدخل لإنهاء الخصومات بين أهل منطقتها، فتحل المشكلات وتعاقب المخطيء، رجلا كان أم امرأة.
وما زال المقهى الذي يحمل اسمها منذ عام 1957 موجودا حتى الآن في سوق الأحد بالجيزة.
شبيهة هند رستم
ويسرد الكاتب سيد عبدالفتاح في كتابه "تاريخ فتوات مصر" حكاية المعلمة توحة فتوة حي المطرية بالقاهرة، اسمها الحقيقي فاطمة إلا أنها أطلقت على نفسها توحة بعد أن رأت شبها بينها وبين توحة في فيلم هند رستم وكأنه يسرد تاريخها.
كانت لا تطيق أن يتعرض أحد إلى زوجها، ومن يفعل ذلك يكون مصيره الضرب المبرح.
دربها زوجها على "الفتونة" لتأمين حياتها بعد وفاته، وكانت الحادثة الأشهر في تاريخها في عام 1951حين توجه أحدهم مطالبا زوجها بدين عليه، وهددها بإبلاغ الشرطة إن لم يدفع المبلغ، فلم تعجبها طريقته فسبته، فقامت والدته بإفراغ "وعاء" ماء فوق رأس فاطمة، فما كان من الأخيرة إلا أن تناولت سكينا باليد اليمنى ومبردا باليد اليسرى، وطعنت الرجل في رأسه وضربت أخاه ووالده وأمه وجدته، ووقع الجميع على الأرض في بركة من الدماء، وفرضت حظرا على الدكاكين والمنازل ومنعت خروج الأهالي.
وتمكن أحد الأهالي من الاتصال بالشرطة، حيث ألقي القبض على فاطمة، ثم أفرج عنها بكفالة خمسة جنيهات، مع تعهد عليها باعتزال الفتونة.
فتوة المناصرة
في حي المناصرة -أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة- كانت تعيش فتوة تدعى زكية لقبها الأهالي بالـ"مفترية"، وكانت امرأة سمراء سمينة الجسم مفتولة العضلات، تفرض "الإتاوات" (الضرائب) على سكان المنطقة، وكان الجميع يدفعونها صاغرين، ومن يعترض سيكون مصيره فقد جزء من أسنانه، أو فقد عين من عينيه.
كانت تجلس يوميا بأحد الدكاكين، ويمر عليها أهل المنطقة في غدوهم ورواحهم فيحيونها تحية إكبار وإجلال، والويل لمن يتغاضى عن تقديم التحية لها، أما ليلا فكانت تذهب إلى منطقتها لتتسامر مع الجيران وتجلس معهم مجلس الزعامة، فلا يخالفها في رأيها أحد.
عزيزة الفدائية
تميزت عزيزة فتوة حي المغربلين بمقاومتها للاحتلال الإنجليزي، فكانت تخبّئ الشوم والعصي في النعوش لتوهم عساكر الإنجليز أنها لميت، فيسمحون لها بالمرور، حينها توقع النعش ويهجم رجالها، فيقتلون من عساكر الاحتلال ويصيبون.
أوقفت موكب الخديوي عباس، بعد أن ظلمها مأمور قسم المغربلين حيث مكان نفوذها، وطالبته برفع الظلم عنها، فاستجاب الخديوي لطلبها.