[ الشاعر العربي محمود درويش ]
لم توقف وفاته قبل 11 عاما وبالتحديد في 9 أغسطس/آب 2008 الجدل الطويل حوله كلماته وأشعاره داخل المجتمع الإسرائيلي، فشاعر الأرض والحب والقضية الفلسطينية استطاع أن يخترق بقصائده ومعجمه المبتكر ودلالات مجازاته، الثقافة العبرية ويصبح مادة للجدل والنقاش داخل مجتمع الاحتلال.
في قصيدته "شتاء ريتا الطويل" جعل الشاعر الراحل محمود درويش من علاقة الحب بين الشاعر الفلسطيني والفتاة اليهودية ريتا رمزا مجازيا، سرد من خلاله معاناة الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يغيب الشاعر عن وطنه، ويستخدم صيغا استبدادية آمرة تعبيرا عن إرادته المطلقة وحكم الأمر الواقع، بينما تغيب ضمائر المتكلم دلالة على غياب الفلسطيني عن وطنه وضياع صوته وحقه.
ورغم أن سميح القاسم صديق درويش المقرّب قال إن للراحل درويش تجربة مع فتاة إسرائيلية كانت متعاطفة مع الشعب الفلسطيني، فقد اكتسبت في قصيدة درويش دلالات رمزية مليئة بالتناقضات والمفارقات بحيث تجاوزت تجربته الشخصية، بينما حضرت الفتاة التي أحبها الشاعر الراحل أمسياته الشعرية وتعاطفت معه.
ورغم مواقفه الوطنية الصلبة فقد حفظت موهبة درويش الشعرية للشاعر الفلسطيني موقعه المميز في الجدل الأدبي والثقافي الإسرائيلي، وأصبح حضور الفلسطيني الثقافي واقعا بعد ترجمة أعماله للغة المحتل العبرية وتلقفها القارئ الإسرائيلي، رغم أنه قال بوضوح:
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذارِ.. حذارِ..
من جوعي ومن غضبي
الترجمات العبرية لدرويش
رغم سياسات إسرائيل "التحصينية" القومية واللغوية والثقافية، وتشويه صورة العربي في الأدب العبري الحديث، تعددت الترجمات العبرية لشعر درويش ووجدت صدى لدى جمهور من القراء بالعبرية.
وأدى معرفة جانب من اليهود الشرقيين "السفارديم" باللغة العربية وثقافتها لسهولة ترجمة أعمال درويش من قبل إسرائيليين ذوي أصول عربية، بينهم أستاذ للأدب العربي في جامعة حيفا من أصول عراقية، وسلمان مصالحة من عرب 1948.
وفي بحثه عن أصداء ترجمة قصائد درويش للعبرية نقل الباحث المصري أحمد هيكل عن مترجمين إسرائيليين قولهم، إن كل ما يتعلق بالشؤون العربية في إسرائيل بما في ذلك ترجمة الأدب العربي "خاضع لإشراف الهيئات الأمنية الإسرائيلية".
محمود درويش وصديقته الإسرائيلية تمار بن عامي، وانتهت قصة الحب مع حرب عام 1967 والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (مواقع التواصل)
محمود درويش وصديقته الإسرائيلية تمار بن عامي، وانتهت قصة الحب مع حرب عام 1967 والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (مواقع التواصل)
ويعتبر هيكل في ورقته المنشورة في مجلة الشعر المقارن أن كثيرا من النقاد الإسرائيليين اعترفوا بأن معظم ترجمات درويش "جاءت من أجل تحقيق أهداف سياسية بحتة، حتى تلك الترجمات التي جاءت وفق دوافع أدبية أو لتلبية احتياجات أكاديمية، كانت تقابل بردود أفعال سياسية من قبل الدوائر النقدية والصحافة العبرية".
ولم تصدر لدرويش ترجمة ديوان كامل للعبرية حتى مطلع عام 2000 قبل أن يسعى المترجم والشاعر الراحل من عرب 1948 محمد حمزة غنايم لترجمة أعمال درويش الكاملة للعبرية صدرت منها أربع مجموعات شعرية عن دور نشر عبرية مختلفة.
وفي عام 2006 نشبت أزمة سياسية وإعلامية في إسرائيل عندما استدعى وزير الدفاع الإسرائيلي حينها أفيغدور ليبرمان مدير إذاعة الجيش يورام ديكيل للتنديد ببث الإذاعة برنامجا عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، واعتبر ليبرمان بث البرنامج الإذاعي "مسألة خطيرة تتعلق بشخص كتب نصوصا ضد الصهيونية".
وفي السياق، شنت وزيرة الثقافة ميري ريجيف هجوما على إذاعة الجيش، معتبرة أن إذاعة الجيش بثت برنامجا يمجد الرواية المعادية لإسرائيل "ويعطي منصة للرواية الفلسطينية التي تنكر وجود إسرائيل بصفتها دولة يهودية وديمقراطية".
لكن صحيفة هآرتس الإسرائيلية عقبت قائلةً إن درويش أكثر تعقيدًا من أهداف ريجيف وليبرمان وحروبهما الثقافية، ومع ذلك -أضافت الصحيفة- من المستحيل التحدث عن شعر درويش دون أن يرتبط بدلالاته السياسية، لأنه منذ أن بدأ الكتابة أصبح درويش يوصف بأنه شاعر المنفى، وشاعر اللاجئين الذين يتوقون إلى وطنهم بطريقة جعلت منه رمزا.
وإلى جانب نجاحه الكبير الذي تضمن دعوته لإلقاء الشعر في جميع أنحاء البلاد بحسب الصحيفة الإسرائيلية، قُبض عليه عدة مرات (على سبيل المثال بعد أن انتهك أمرا يمنعه من مغادرة حيفا وسافر إلى القدس). وفي عام 1969 غادر إسرائيل لحضور مؤتمر سياسي ولم يعد.
وتنقل بين باريس وموسكو، قبل أن يرحل إلى مصر ثم لبنان. وانضم إلى المجلس الوطني الفلسطيني، ونتيجة لذلك لم يُسمح له بالعودة.
وفي الثمانينيات التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية وأدار مركز أبحاث الحركة في بيروت، وفي عام 1988، كتب إعلان الاستقلال الفلسطيني. وبعد اتفاقات أوسلو في عام 1995، سمحت له السلطات الإسرائيلية بالعودة لحضور جنازة زميله إميل حبيبي.
وفي عام 2007 سُمح له مرة أخرى بزيارة حيفا. وتوفي في تكساس في العام التالي.
ورغم أنه تجول طوال حياته تقريبا وعاش في باريس وموسكو والقاهرة ورام الله وعمان وبيروت وإسرائيل والولايات المتحدة، فقد دُفن في رام الله بالضفة الغربية.
أيها المارّون
تعرض درويش لانتقادات من ناجي العلي ونقاد عرب وناشطين وفنانين اعتبروه خرج عن حدود القضية الفلسطينية إلى رؤية إنسانية واسعة، لكن ذلك لم يكسبه أي مصداقية إضافية لدى المجتمع الإسرائيلي، فظل على الدوام بنظر القارئ العبري رمزا للشاعر الوطني الفلسطيني.
وبالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، تعرض درويش لهجوم ضارٍ داخل الكنيست الإسرائيلي وتلا أحد أعضائه قصيدته.
وفي 1988 شن عضو الكنيست اليميني المتطرف إسحق شامير هجوما ضاريا على درويش داخل الكنيست، قارئا أمام الأعضاء قصيدته "عابرون في كلمات عابرة" التي يقول فيها:
"فاخرجوا من أرضنا
من برنا.. من بحرنا
من قمحنا، من ملحنا
من جرحنا
من كل شيء واخرجوا
من مفردات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة"
واعتبر عضو الكنيست الإسرائيلي أن درويش يحرض الفلسطينيين على التمرد ضد إسرائيل، وعاد الجدل مجددا مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، إذ اعتبر عضو الكنيست اليميني إلياكيم هعيتساني أن قصيدة درويش التي كتبها في الثمانينيات تنبأت بما حدث للمستوطنين بعد أكثر من ربع قرن عندما أجبر آلاف اليهود على الخروج من المستوطنات في إطار خطة فك الارتباط:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
إنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
وفي عام 2000 حاول وزير التعليم الإسرائيلي يوسي ساريد إدراج قصائد درويش جزءا من منهج الأدب في المدارس الثانوية، لكن الجدل السياسي الذي نشأ نتيجة لذلك وضع حدا للخطة.
ولم تسلم أشعار درويش المترجمة من قراءتها بوصفها بيانا سياسيا، وجرى النظر لأشعاره بالمنظور الأمني باعتباره داعما للانتفاضة الفلسطينية وتهديدا لأمن الدولة العبرية، ومع ذلك حرص شاعر المحاصرين والمقهورين على مخاطبة الإسرائيليين في كير من أشعاره، وقال:
أَيُّها الواقفون على العَتَبات ادخُلُوا،
واشربوا معنا القهوةَ العربيَّةَ
فقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلنا.
أَيها الواقفون على عتبات البيوت!
اخرجوا من صباحاتنا،
فقد نطمئن إلى أننا
بَشَرٌ مثلكُم!
وكان درويش واعيا بعدم اهتمام القراء الإسرائيليين بشعره وربما بالأدب عموما، وقال لصحيفة نيويورك تايمز، "لا يريد الإسرائيليون أن يعلّموا الطلاب أن هناك قصة حب بين شاعر عربي وهذه الأرض. أتمنى لو أنهم قرأوني للاستمتاع بشعري، وليس باعتباري ممثلا للعدو".