[ لوحة زيتية لبرج بابل الذي يرتبط بأسطورة نشأة اللغة في بلاد الرافدين بريشة بيتر بروغل الأكبر (الجزيرة) ]
أعلنت غارديان البريطانية منتصف العام الجاري تعديل لغتها لإدخال مصطلحات تصف بدقة الأزمات البيئية التي تواجه العالم واستبدلت مصطلح "التغير المناخي" بكلمة "الطوارئ المناخية"، "الأزمة" بمصطلح "الانهيار"، "تزايد الحرارة عالمياً" بدلاً من "التدفئة العالمية" وذلك تقديراً لخطورة الكارثة البيئية المعاصرة على البشر.
وأشار إعلان الصحيفة أن مصطلح "أزمة المناخ" بات متداولاً في بيانات الاتحاد الأوروبي وأحزاب سياسية لأهمية اللغة في تناول القضايا البيئية بدقة متناهية حيث تناول الناقد الأدبي جون فلستينر في كتابه "هل يمكن للشعر أن ينقذ الأرض" أهمية الشعر واللغة وقدراتها الرمزية في وقت الأزمات البيئية معتبرا الشعر قادرا على جعل البشر يستعيدون الاهتمام بالبيئة.
التنوع اللغوي والبيولوجي
لا يفقد عالمنا التنوع البيولوجي فقط بل التنوع اللغوي والثقافي أيضاً، حيث تشير بيانات اليونسكو لعام 2018 في "أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار" إلى أن 2500 لغة محلية مهددة بالانقراض وأن هناك لغة تنقرض كل أسبوعين.
ولا يبدو التزامن بين فقدان التنوع البيولوجي واللغوي الثقافي مجرد صدفة وإنما يوجد ترابط بينهما، كما يشير مجموعة من الباحثين في "علم اللغة الإيكولوجي" (البيئي).
وركزت بعض الاتجاهات الحديثة بالدراسات اللغوية وتحديداً "اللغويات العصبية" على العلاقة بين العمليات البيولوجية للدماغ واللغة والعمليات الذهنية التي تحدث في العقل وتأثيرها على النظام اللغوي، وذلك في دراسات "اللغويات المعرفية" وقد صارت العلاقة بين بيئة الناس ولغتهم في الفترة الأخيرة مثار اهتمام اللغويين.
وتظهر الدراسات أن معظم مناطق التنوع البيولوجي الكبير عالمياً هي أيضا مناطق للتنوع اللغوي والثقافي، وأن من بين أكثر من ستة آلاف لغة متبقية في العالم يوجد ما يقرب من خمسة آلاف لغة في المناطق التي تتمتع بتنوع بيولوجي كبير حيث ترتبط البيئات البيولوجية المتنوعة بوجود السكان المتنوعين لغوياً بدرجة كبيرة أيضاً.
وكان التوسع البشري للناس ومحاصيلهم وأمراضهم ولغاتهم على مستوى العالم -خاصة أوروبا- مرتبطا بإلحاق الضرر بتنوع الأحياء والثقافة واللغة، ويعتقد الباحثون أن التقاليد الثقافية المستمرة للمجموعات السكانية الأصلية واقتصاداتها وسبل إدارة بيئاتها المحلية في المناطق النائية سمحت للتنوع البيولوجي بالنمو والازدهار.
اللغة والبيئة
يقول اللغويون إن زيادة عدد الكلمات التي تصف قضايا البيئة في لغة ما تعني زيادة الوعي بقضاياها، وتنشأ معظم المصطلحات الجديدة ضمن اللغة الإنجليزية، وتكون تقنية للغاية ومجردة وغالبًا ما تكون تشكيلات متعددة لكلمات من أصل يوناني أو لاتيني.
واستخدمت بعض المصطلحات لتضليل الجمهور حول ممارسات إشكالية من الناحية البيئية مثل "استصلاح الأراضي" ليتم تناول نفس القضايا من منظور مختلف تماماً بسبب المصطلحات التي قد تضفي على الممارسة الضارة بيئياً توجها إيجابيا مضللا.
ويرى الباحثون في "اللغة البيئية" أن تناول الحيوانات بنفس طريقة الضمائر المخصصة للبشر في بعض اللغات (وليس صيغة غير العاقل) يؤكد تضامن الناس مع بيئتهم، وأن العلاقة اللغوية بين السبب والنتيجة تؤثر في منظور البشر نحو البيئة.
التصنيف وزمن المستقبل
يميل البشر بشكل طبيعي لتصنيف وتنظيم وتسمية الأشياء المهمة في التجربة الإنسانية حول العالم مثل اللون والأشكال، ووجد عالم الأنثروبولوجيا برنت برلين وآخرون أن هناك أنماطًا عالمية في كيفية تسمية البشر للأنواع البيولوجية وتصنيفها في بيئتهم.
وتصنف جميع اللغات والثقافات أسماء النباتات بطريقة منتظمة غير عشوائية، ويزداد مثلا معجم الأسماء النباتية كل عام بإضافة مفردات جديدة لفئات وأنواع نباتية أكثر تحديداً، فيتحول "البلوط" مثلاً إلى "البلوط الأبيض" كما يتطور وعي الناس المتزايد بالنباتات من حولهم مع المفردات الجديدة الأكثر دقة في تحديد الأصناف الحية.
ويكشف الباحثون -في بحث نشرته مجلة الاقتصاد المقارن- مصدرًا جديدًا يفسر السلوك البيئي يتمثل في وجود زمن المستقبل في اللغة، مع التوقع بأن اللغات التي تشتمل على هذا الزمن يكون المتحدثون بها أقل عرضة لرعاية البيئة في سلوكهم.
فرضية سابير
ويعتبر عالم اللسانيات الأميركي إدوارد سابير أن اللغة التي يتحدث بها الشخص تؤثر على الطريقة التي ينظر بها إلى العالم ويتفاعل معه، وتشتهر أربع فرضيات مختلفة للعلاقة بين اللغات وبيئاتها، وتخرج جميعها من مدارس مختلفة للفكر اللغوي.
واعتبر اللغوي الأميركي ناعوم تشومسكي ومدرسة اللغويين المعرفيين أن اللغة البشرية مستقلة عن بيئتها، في حين يشير آخرون إلى أن اللغة هي التي تبني العالم ووجوده.