إذا كنت تتساءل: متى وكيف تحولت المقاهي في العالم العربي لساحات النقاش الثقافي والسياسي، وملتقى للتجار والصناع والحرفيين، وحتى المجالس الاجتماعية وملتقيات الأصدقاء وكذلك مكان تستطيع الحصول فيه على آخر الأخبار والكواليس التي لا تعرفها من نشرات الأخبار؟ فمن المناسب أن تنتقل مع هذا التقرير للعاصمة العثمانية إسطنبول ومقاهيها في القرن 19، فالقصة ربما تبدأ من هناك.
في هذه الحقبة الزمنية كانت مدن المشرق العربي -بما فيها القدس ودمشق والموصل وبغداد- تعيش في مجال عثماني واحد، وكانت الصحيفة الوحيدة الموجودة ذلك الوقت "تقويم وقائع" تقدم سردا تقليديا رتيبا لأخبار الدولة الرسمية وإنجازاتها بشكل لا يرضى فضول القراء الذين يستطيعون -عوضا عن ذلك- متابعة التطورات ومواكبة الأحداث بالجلوس أو التجول في المقاهي التي تختلط فيها رائحة الدخان والقهوة بالآراء السياسية والنقاشات التجارية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء، وبالتالي عندما يقع أي اضطراب في البلاد فإن أول شيء سيفعله الحكام العثمانيون هو إغلاق المقاهي.
وكان المقهى العثماني معلما أساسيا لثقافة الإمبراطورية، وجمعت هذه المقاهي العثمانيين بشتى أنواعهم، وجذبت شعبيتها اهتمام الحكومة التي أرسلت إليها عيونها لاستطلاع الرأي العام، ولاحقا اعتمد الأوروبيون المقاهي وغيرها من العادات الترفيهية العثمانية خلال حقبة الحداثة المبكرة، ولعبت مقاهي إسطنبول دورا بارزا في تعميم المقهى والقهوة عالميا.
وكتب المؤرخ العثماني بجوي إبراهيم أفندي في القرن 17 عن المقاهي قائلا "أصبحت هذه المحلات أماكن التقاء للكثير من الباحثين عن المتعة والمتعاطين، وكذلك الأذكياء من بين رجال الحرف والأدباء، وكانوا يجتمعون في مجموعات من حوالي عشرين أو ثلاثين شخصا، بعضهم يقرأ الكتب في وقت ينهمك آخرون في لعب الطاولة والشطرنج، ويلقي بعضهم قصائد جديدة ويتحدثون عن الأدب".
وتم افتتاح أول مقهى بإسطنبول منتصف القرن 16 في عهد السلطان سليمان القانوني على يد اثنين من تجار دمشق (وقيل إنهما كانا يمنيين). وقدم المقهى الجديد لرواده القهوة والمشروبات السكرية والحلوى، وسرعان ما انتشرت مئات المقاهي سريعا بإسطنبول، ومنها لبقية المدن العثمانية بما فيها البلدان العربية.
وتفيد المصادر التاريخية أن آخر القرن 16 شهد ما يقرب من ستمئة مقهى بعاصمة الإمبراطورية، وما يقرب من 2500 بحلول نهاية القرن 19.
وتدريجيا حلت المقاهي محل المنازل والمساجد كقلب للمجال العام، وإلى جانب كونها أماكن راحة واحتساء القهوة واللعب والتدخين، فقد أصبحت مكانا لتداول آخر الأنباء خاصة قبل ظهور الصحف، والاستماع لحكايات رواة القصص، والترفيه والسخرية الحادة من السياسيين.
وكانت المقاهي أيضا أماكن يبرم التجار فيها الصفقات، ويرتب قادة السفن فيها حمولتهم التالية، ويبحث السماسرة عن العملاء المحتملين. وكان أرباب الحرف يترددون على مقاه معينة يعرفها طلاب العمل، وجندت الدولة المخبرين لمعرفة اتجاهات الرأي العام وكتابة تقارير حول ثرثرة رواد المقاهي، بحسب الباحث بجامعة بوغازتشي التركية جنكيز كيرلي، وشكلت تقارير المخبرين التي جرى الاحتفاظ بها صورة عن الحياة بالمدن العثمانية.
ومثلما هي الآن، كانت المقاهي نقطة لقاء شبكات الهجرة حيث وجد المهاجرون الجدد مأوى مؤقتا وأحيانا دائما، وبدؤوا اتصالاتهم لبناء حياتهم الجديدة بإسطنبول، وكانت أيضا مساحة يلتقي فيها الناشطون المعارضون، وكان جنود النخبة الإنكشارية -الذين شكلوا أهمية سياسية كبيرة بالدولة من القرن 17- يجلسون دوما على المقاهي.
وسرعان ما كان لدى القصور العثمانية "قهوجي أوستا" مع اثنين لمساعدته على طحن حبوب أرابيكا لتكون مسحوقا ناعما يجري غليه في أوان نحاسية خاصة، قبل أن تصب في أكواب خزفية صغيرة، وتقدم مع الماء وحلوى الحلقوم لكسر مرارتها.
أنواع المقاهي
ولأن المقاهي عكست الحياة اليومية للمجتمع العثماني، فقد اشتهرت مقاه بعينها كمكان لتجمع طبقات معينة مثل الحرفيين والمثقفين والشعراء والجنود الإنكشارية.
وعرفت إسطنبول مقاهي الحدادين أو صناع الزجاج والبلور، ومقاهي الجزارين وصانعي المجوهرات، وخصصت بعض المقاهي مغنين وموسيقيين لتقديم عروض حية ليتابعها رواد المقهى حين يحتسون القهوة.
وخُصصت بعض المقاهي للجنود الإنكشارية الذين شكلوا طبقة عسكرية مهمة في الجيش العثماني، وفي القاهرة العثمانية في القرن 18 أشارت المصادر التاريخية لقرابة 1200 مقهى في مدينة القاهرة وحدها، بخلاف أحياء مصر القديمة وبولاق القديمة، وخضعت مقاهي القاهرة لملتزم تدفع له كل المقاهي رسما صغيرا بداية كل سنة، ويمنح التراخيص لفتح المقاهي ويقدم مرتكبي المخالفات للعدالة، وكان ملتزم المقاهي في هذه الحقبة من الإنكشارية.
وعرفت المقاهي العثمانية كذلك رواة القصص والحكائين الذين يقدمون عروضا مضحكة أو حكايات مثيرة، وبحلول النصف الثاني من القرن 19، بدأ نوع جديد من العملاء في زيارة المقاهي، إذ اتخذها المثقفون ساحة لحواراتهم وتداول أفكارهم وكتبهم ومكانا لقراءة الصحف والمجلات والكتب.