[ فزّاعة تجسّد راعي أغنام، وهو نشاط يومي للعديد من أهالي قرية "الوسّاعية" (الجزيرة) ]
مثل جميلة استيقظت من سباتها فوضعت مشابك شعرها بطريقة عشوائية ومبعثرة، تطالعك قرية "الوسّاعية" من محافظة القصرين (وسط غربي تونس)، النائمة على سفوح جبل "سمّامة" بفزّاعاتها المتناثرة دون تناسق وسط الحقول التي تشقها مسالك فلاحية وعرة تسطر الكفاح اليومي للأهالي.
الفزّاعات في تونس أو "خيال المآتة" عبارة عن خشبتين متصالبتين يُلبسهما الفلاح قطعة قماش تهتزّ مع هبوب الرياح لإيهام الطيور بوجود إنسان كي لا تتلف المحاصيل. وقد وُجدت في الحضارة الزراعية السومرية والبابلية والآشورية والأكدية، ومن ثم الفراعنة وكل الحضارات الزراعية المتلاحقة.
الفزاعات وفن التدوير
في تونس وتحديدا في القصرين استطاعت شابة تونسية المزج بين الإفادة والجمالية الفنية، لتخرج الفزّاعات من صورتها النمطيّة المتوارثة التي تنفّر الطيور وتبعدها عن المحاصيل، لتجعلها أقرب إلى الشخصيات الكرتونية ودمى الأطفال، التي تنفّر الطيور أيضا رغم لطف مظهرها الجديد.
تقول زينب الهلالي للجزيرة نت إن المنطقة تتميز بطبيعة ساحرة وبامتداد لحقول شاسعة متاخمة لجبل سمّامة. هذه الخاصية الجغرافية جعلت السكون يطغى على الجلبة لندرة العابرين في المسالك الفلاحية، وفي هذا الفراغ الممتد تنتصب الفزاعات القديمة البشعة التي تضيف إلى الصمت رهبة ثقيلة أقرب للموت منها إلى الحياة.
وبعد تفكير قررت زينب استثمار كل ما تقع عليه يدها من مخلفات الأنشطة الفلاحية التي تعتبر العمود الفقري لحياة أهالي المنطقة، والتي تتمثل عادة في الأوعية البلاستيكية والحديدية وقطع الملابس التي يتخلى عنها الفلاحون، وما إلى ذلك من نفايات غير عضوية تخلصت منها العائلات لعدم جدواها.
ومن الباحة الخلفية لبيتها الريفي بدأت رحلة تجميع أكداس النفايات التي طالتها يدها أثناء رعيها للأغنام، وبدأت تجسّد وجوها غريبة ربما استنسختها مخيلتها الطفولية من أفلام الكرتون ومن الوجوه الكادحة التي ألفتها وعايشت نظراتها وطريقة لباسها، لتصبح فزاّعات ذات وجوه وحكايات.
وفاء للهوية والتراث
يقول مدير المركز الثقافي في منطقة جبل سمّامة عدنان الهلالي إن مجسمات زينب تنبع من واقع المنطقة ومن ثقافة الرعاة التي يعمل على المحافظة عليها ضمن برنامجه، وإنه لمس هذا الحس الفني لدى زينب وسعى لتطوير فكرتها التي استحسنها عند رؤية أولى أعمالها ودفعها لتكون من ناشطي المركز الثقافي.
ويضيف الهلالي في حديثه للجزيرة نت أن الحسّ الفني والرغبة في التعبير ليست حكرا على الطبقة المثقّفة ذات التكوين الأكاديمي، معتبرا أن أهالي الوسّاعية خير سفراء لتراثهم وثقافتهم وهم حفاظ إرثها دون منازع، ممّا جعل أنشطة هذا المركز تشعّ لتصل إلى العالم نظرا لأصالة ثقافتهم وغزارة عادات المنطقة.
أغنام ورعاة ورجال يصطفون في البيادر إلى جانب النساء، أطفال وشبان، شخصيات كرتونية وأحيانا شخصيات آلية، كلها مشاهد من الحقول ومن الذاكرة الطفولية، جعلتها زينب شخوصا لطيفة الملمح للمارة تقف في وجه العصافير الغازية لتنشر ثقافة الحياة والألوان ولتجعل الحقول تتكلم وتتحرك بعد الصمت والسكون.
ورشة للفزاعات
إثر جولة صباحية في الحقول والمزارع المجاورة، تغدو أكياس زينب وصديقاتها خماصا وتعود بطانا إلى المركز الثقافي، مليئة بالمخلّفات البلاستيكية والمعدنية التي تزدريها الأعين وتتجنّبها الأيادي، في جولة اعتدنها منذ انتسابهنّ إلى ورشة الدمى والفزّاعات التي تشرف عليها زينب.
لا تحدد نوعية المخلفات المجمّعة، ولا المواضيع التي ستكون محور عمل الورشة، بل يتم تطويعها ليتمكن الفريق من تجسيد مشهد ما مثل الأعراس في المنطقة، أو الرعي، أو الحياة العائلية والطفولة.. فترى زينب تعالج قطعة من الحديد الصّلب أو تقطّع بلاستيكا صلبا لغاية في نفسها لم تُبدها لأحد.
عمل مضن أحيانا، يتطلّب طاقة بدنية واستعمال أدوات اكتسب الرجال خبرة في استخدامها، ولكن هذا لم يثن زينب وصديقاتها عن معالجة أنواع من المعادن والقطع والأواني بما أوتين من رغبة في إنجاز هذا العمل الجماعي، لتنتصب فزاعات من الجيل الجديد كطاردات للطيور والسكون المطبق على المنطقة.
معرض للفزاعات في سبتمبر
تقول زينب إن المساحات المجاورة للمركز الثقافي بدأت تتغيّر، إذ أضحت الفزّاعات أكثر جمالا وجذبا للأنظار لما تجسّده من شخصيّات ودمى تحمل الكثير من المعاني الموغلة في ثقافة الأهالي، بل إن بعضهم طلب منها وضع بعض من فزّاعاتها في حقله لطرافتها وجماليتها في الوقت نفسه.
يذكر أن نشاط زينب في تطوير الفزّاعات التي تعتبر من عادات الفلاحين الضاربة في القدم، لقي صدى إيجابيا لدى وزارة الشؤون الثقافية التونسية فقدّمت لها دعما ماديا جعلها تقرّر تنظيم معرض للفزّاعات يفتتح في سبتمبر/أيلول المقبل ويحتضنه المركز الثقافي بجبل سمّامة.
زينب تعيش من رعي الأغنام والقيام ببعض الأعمال الفلاحية التي طالما وضعت في خانة اجتماعية محدودة الآفاق، لكنها -على بساطة إمكانياتها- استطاعت جعل العابرين وسط حقول "الوسّاعية" يلتفتون ويمعنون النظر في الفزّاعات، ومن ورائها في جمال الحقول والطبيعة التي طالما مرّوا عليها ولم يلاحظوها.