[ برونو غانز مؤدّيًا دور هتلر: براعة التمثيل ]
لن يكون خاطئًا القول إن تأديته دور أدولف هتلر، في "السقوط" (2004) للألماني أوليفر هيرشبيغل، يُشكّل منعطفًا في كيفية تقديم تلك الشخصية القاتلة في التاريخ الحديث. مُشاركته في "المنزل الذي بناه جاك" (2018) للدنماركي لارس فون ترير، إضافة جديدة على معنى "تجسيد" الضمير أو المُرافق اللامرئي للمرء إلى الجحيم. لحظتان، في سياق تاريخي مليء بالأدوار السينمائية المختلفة، تجعلانه أقدر على جعل الأداء الاحترافيّ فنًا وحضورًا إنسانيًا وموقفًا أخلاقيًا، وإنْ تكن الشخصيات، أحيانًا، مناقضة لهذا كلّه؛ فهو الأعمق في تحويل الشرّ إلى حرفية مهنيّة، تتيح تقديم روائع في الاشتغال السينمائيّ، وفي جعل النصّ المكتوب ناقصًا إنْ لم يكن هو مترجمه البصري.
ظهر السبت، 16 فبراير/ شباط 2019، يُعلَن عن رحيل السويسري برونو غانز، بعد مواجهة مرض سرطانيّ سيكون سبب غيابه، قبل أسابيع قليلة على احتفاله بعيد ميلاده الـ78، فهو مولود في 22 مارس/ آذار 1941 في زوريخ، المدينة التي تشهد رحيله. لائحة أفلامه طويلة. أدواره كثيرة. تمثيله المسرحيّ بداية سيرة منقلبة إلى السينما. انتقاله إلى برلين جزءٌ من وعي معرفيّ بالفنون والثقافة. هذه لن تكون تفاصيل عابرة، فهي جزء من تكوين متكامل، يدفع غانز إلى تخوم التجريب، وإنْ يتعطّل بعض التجريب أحيانًا، من دون أن تتعطّل شهيّته إلى أداء يكون، أحيانًا، خارج المتوقّع.
اختيار فيلمي "السقوط" و"المنزل الذي بناه جاك" ناشئ من كونهما نموذجين لابتكار صورة بهيّة عن شرّ ثنائي الشكل. فهتلر مثال الهوس بعبقرية الفعل الاستعلائي، من أجل تحقيق نمط من العيش متحرّر من ثقلٍ يصنعه طارئون على مشروعه؛ وفُورْج ـ الذي يُرافق جاك (مات ديلون) في مسلسل القتل المُمَارس كفعل استعلائيّ، هو أيضًا، من أجل تشييد حيّز مكانيّ وإنسانيّ وعمرانيّ مفتوح على هناء الابتعاد عن لوثة الطارئين عليه ـ يتماهى بسيرة الذاهبين إلى حتفهم منشرحًا في مخاطبتهم وهو غير مرئيّ، ومتحكّمًا بلعبة حياة وموت لا مثيل لها.
هوس أدولف هتلر بالعمارة حاضرٌ في "المنزل الذي بناه جاك"، ورحلة الجحيم التي يقوم بها جاك حاضرةٌ، وإنْ في شكل سينمائي وتاريخي وحياتي مختلف، في "السقوط". كأنّ برونو غانز ـ ببراعته وهيبته ونبرة صوته وحركة جسده ونظرته ولؤمه المخفيّ وابتسامته الملتبسة ـ دربًا يأخذ هتلر إلى قدر جاك، ويضع جاك في مواجهة نفسه أمام مرآة قدره.
وإذْ يتذكّر كثيرون، من بين مشاهد عديدة، ثورة الغضب في الحصن الذي يختبأ هتلر فيه، أو لحظات الهدوء والسكينة الأقرب إلى إنسانية يُصدّقها هؤلاء لكونها نتاج اشتغال برونو غانز وبراعة حضوره وجمال تمثيله؛ فإن هناك من يعجز عن نسيان دامْيال، في "أجنحة الرغبة" (1978) لفيم فاندرز، أحد مَلاكين يسبحان فوق برلين قبل سقوط الجدار (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989)، ويلتقطان مساماتها وأقدار ناسها، ويكتشفان ـ بمونولوغاتهما المليئة بتأمّل وإحساس وبحثٍ ـ مصائر الدنيا والبشر؛ وهناك من لن ينسى تحوّل دامْيال إلى آدميّ يريد اختبار معنى الجسد واللمس والنفس والرائحة، بعد وقوعه في غرام امرأة "أرضية"، فينصاع لرغبة العشق في التحطّم بعيدًا عن خلودٍ وبقاء.
وماذا عن الصحافي الألماني غيورغ لاشن، في "المزيّف" (1981) لفولكر شلوندورف، الغارق في جحيم بيروت، في حربها الأهلية؟ ألن يكون غانز أحد أجمل الانعكاسات العنيفة لجحيم، يبدو أن الممثل النمساوي، العامل في ألمانيا، سيكون أحد تجسيداته السينمائية الرائعة؟
الممثل المسرحيّ، المُشارك في أفلامٍ تمتلك شرعية اختباراتها التجريبية في مقاربة الصورة والأداء والبوح والمعاينة، يُنجزها سينمائيون يريدون المؤجّل في الإبداع، فتُصبح صُوَرهم السينمائية أضواء تكشف مخبّأ، أو تفضح مبطّنًا، أو تمنح السينما إضافة قولٍ واشتغال: وولفغانغ بيترسن وفيرنر هرتزوغ وبيتر هاندكه وفرنسيس فورد كوبولا وثيو أنغلوبولس وبِلْ أوغست وغيرهم. هذه سيرة سينمائية مديدة تنتهي، عام 2018، مع لارس فون ترير وتيرينس مالِك في "راديغند"، فيلم حرب يعود إلى عام 1938، مع غزو جيش أدولف هتلر (مرّة أخرى!) للنمسا. لكن غانز يُقدِّم فيه نقيض الزعيم النازي تمامًا، إذْ يرفض فرانز ياغرشتاتر (غانز) التصديق على إلغاء النمسا بقرار النازيين، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
يرحل برونو غانز. هكذا يُختَم عمرٌ من اختراع معانٍ جميلة لتمثيلٍ حاضرٍ في وعي فردي، مهموم بأسئلة الصورة والاشتغال الفني وابتكار الحكايات ورسم الانفعالات.