تُقدِّم الروائية اليمنية نادية الكوكباني في رواية «صنعائي» الصّادرة في طبعة ثانية عن دار الحوار 2015، وقد سبقتها طبعة عن مركز عبادي بصنعاء، وجوه مدينة صنعاء المتعدّدة؛ وجه المدنيّة، وجه الحبّ ووجه الحرب والصراع، وهذا الأخير شكّلته ميليشيات الصّراع السّياسيّ في اليمن، وهو الذي شكّل منعطفا خطيرا في تاريخ اليمن الحديث، فقد انعكس على نهضتها وأخرجها من اللحاق بركب التنمية والتقدّم الذي لم تلحق به، فقد جز عام 1948 الإمام أحمد أعناق الثوّار وأباح صنعاء لجشع ووحشية أفراد القبائل الذين اقتحموا المدينة ونهشوا خيرات أسواقها ونهبوا مخازن حكّامها وأغنيائها، دمّروا منازلها وقتلوا مَن وجدوه من البشر، لم يفرّقوا بين أطفال أو نساء أو شيوخ، وتلت ذلك صراعات توالت في أعوام 52، 62 حتى انتهت بحصار صنعاء 1968 وقتل وسجن وتهجير مَن قام بتحريرها. ثمّ بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي 1978، ومع الوحدة بين طرفي اليمن الشمالي والجنوبي التي أعقبت حرب 1994 وهلل لها اليمنيون، إلا أن السّاردة تقدّم لنا الصّورة الأخرى لهذه الوحدة التي كان ظاهرها الدفاع عن الوحدة، لكن جوهرها هو تصفيّة القوى المدنيّة.
الحرب والحب
كان طغيان المادة التاريخيّة التي جاءت مُدْمَجة في نسيج السّرد عبر حكايات الشخصيات عن الماضي في رواية «صنعائي» عاملا لكشف اللثام عن حالة التشويه والتزييف التي مورست ضدّ الثوّار الذين اغتيلوا مرتين، جسديّا ومعنويّا وهو ما فطن إليه والد البطلة الهارب في عزلته بعد أحداث الحصار، والذي تستهل الرواية أحداثها بعودته إلى مدينته التي عشقها ودافع عنها وأورث عشقه لها لابنته، ولكنه عاد جسدا مسجّى ليدفن في مدافن خزيمة المرأة اليهودية التي كشفت وجها من رحابة المدينة في قبول الآخر والتعايش معه، عندما أخبرها بجوهر الصراع وأنه ليس كائنا “في خشية القوى التقليدية من قوى الحداثة والمدنية التي أظهرها الشباب في الجيش وفي نسيج المجتمع أثناء الدفاع عن صنعاء”.
تتخذ الكاتبة من التاريخ والأحداث السياسيّة التي كانت أشبه بصراع على السُّلطة في اليمن بين معسكري التقليديين والمحدثين إطارا لروايتها، كما توغل في المدونة التاريخية، ليس فقط قصد قراءة الماضي بعيدا عن الرواية الرسميّة، وإنما لتقرأ الحاضر الذي يتجاوز الصّراع الدائر في اليمن منذ أحداث 11 فبراير 2011، إلى قراءة واقعنا العربيّ بعد عثرات الربيع، وحالات الإخفاقات التي انتهت إليها جميع دوله في هذا المشهد البائس، لتقول لنا كيف أدار الرجعيون المعركة، قديما وحديثا؟ بإحالة وقائعها على أحداث الماضي.
ثمّة وجه آخر يطلّ على المدينة القديمة غير وجه الحرب والصراع السياسي، وهو وجه الحبّ الذي جمع بين صبحيّة وحميد عندما التقته في مرسمها صدفة، فقصّة الحبّ التي جمعت بينهما كانت المدينة صنعاء شاهدة عليها بل ومُحفِّزة لها، فصبحيّة التي غرس فيها أبوها حبّ المدينة تتمنّى أنْ تتزوجَ «مِن رجل صَنعائي خالص مئة في المئة، نشأ وتربى في المدنية القديمة تحديدا، يعرف أزقتها، لعب في حواريها، وعجنته عاداتها وتقاليدها الإنسانية، حتى غدا إنسانا يجري في دمه حبّ المدينة وألقها الذي لم يَخْبُ لحظة منذ ألفي عامٍ ويزيد، رجل صنعائي مثل أبي» وهو ما يتحقّق في حميد الضابط الخمسيني ابن واحد من الثوّار الذين قتلوا في حصار السبعين، يشاطرها الوله بالمكان والغيرة عليه، وهو ما يدفعه في بداية الأمر إلى استنكار قدومها للمكان، ومشاطرته هذا الحب للمدينة التي يرى أنه لا يحبُّها أحد أكثر منه، فيتساءل «هل أردت الانتقام منها لترحل عن مدينتي؟»، ويمارسان في المدينة عشقهما وجولاتهما في أزقتها وحماماتها القديمة، ويرتشفان قهوتها ويتجولان في أسواقها الأثرية. يحفر العشق بينهما طريقه، حتى تظهر صاحبة الستارة التي تكشف عن الصورة الأخرى لحميد العاشق والمولع بالنّساء وعن تعدّد علاقاته، فهو زوج وله أبناء إلا أنّه محبّ للنساء وعاشق لجمالهن.
استعادة المدينة
سعت السّاردة عبر حالة التماهي بين شخصياتها والمكان/ صنعاء القديمة، إلى استعادة هذه المدينة بكافة وجوهها التاريخيّة وصراعاتها الدموية والثقافية، وأيضا برحابتها في قبول الآخر، وبثوّارها الحقيقيين كالبطل علي عبدالمغني، وأماكنها المتعدّدة التي تعكس تاريخا حافلا شاهدته حاراتها وأزقتها وسورها القديم بأبوابه الكثيرة، وحماماتها التركية، ومقاهيها مثل مقهى سمسرة وردة الشهير، ونساء المقهوية وأسواقها كسوق البقر، وبملابسها المميّزة السترة واللثمة في صورة تقية والرجال بالزنّة، وكذلك طقوس الاستحمام في الحمامات التركية، ونساء البلدة وما يفعلنه من طقوس لسحر الرجال بغية غوايتهم.
أحلام مبعثرة
وكذلك تتناول الكاتبة ما تحويه المدينة من عادات خاصة بأهل صنعاء كمقايل القات التي يمارسها الرجال بعد العصر، والرقصات التي تتميّز بالدلال والغنج، التي علّم الجدّ منها زوجته سمرة الجدة، والتي راحت هي الأخرى تُعلِّم حفيدتها خطوات الرقص الثلاث الدعسة والوسطى والسّارع، كانت الاستعادة كاملة بما في ذلك الأسماء العربية التي منحتها لأبطالها كـ: تقية، صبحيّة، حميد، حظية،حورية مسك، ذهبة، وغمدان. وكذلك الأغاني اليمنيّة وأشهر مطربيها مثل أحمد السنيدار، وعلي السّمة، ومحمد الحارثي، وصناعاتها مثل الجنبية والخناجر التي تتوّسط جسد الرّجل اليمني، كدليل على عنفوانه ورجولته.
جاءت هذه الاستعادة عبر نسيج سردي محكوم بلغة رشيقة غنائية في كثير من أجزاء السّرد حيث الحنين إلى الماضي وتدفق الذكريات، وعبر صوتي صبحيّة وحميد اللذين كانا يتبادلان السرد والفصول، في تقنية جعلت من صوتيهما بمثابة القرار والجواب؛ فالأسئلة الكثيرة التي كانت تطرحها صبحيّة كان يأتي الجواب عنها في سرد حميد، كما أن البناء السردي كان أشبه ببناء معماري، إذ نقلت الكاتبة خبرتها الهندسية إلى الحكاية، فبدأت فصولها بمقتطفات لها دلالاتها داخل سياق الفصل، وبعناوين مميزة جدّا مختزلة، كما استعادت في حكيّها تراثا شفاهيا قديما يتمثّل في نقل الحكاية عن آخرين، حيث ثمّة رواة مجهولون يتمثل حضورهم في إشارات (قيل/ سمعت/ جاءت الحكاية عن…).
غلب التوازي على بنية الشخصيات، إذ تتوازى شخصية الأب الهارب مع شخصية حميد الذي استقال من عمله عندما عجز عن مجابهة الفساد.
كان حضور المرأة مميزا سواء في دورها إبّان الصراع الدائر في تلك الحقبة، أو بدورها في المقاومة وتحمّل نتائج الحرب التي كانت فادحة بالنسبة إليها بغياب الزوج وافتقاد العائل، وأيضا بعشقها وتمردها، كما كان واضحا في شخصية حورية مسك، التي كانت نموذجا دالا على ذكورية الرجل بكافة تنويعاته، أب/ أخ/ حبيب… أعطت كلّ شيء للجميع لكن لم يُقابل عطاؤها بشيء.
هذه رواية عن الحرب والمكان والحبّ والعشق للمكان وللإنسان معا، سعت الكاتبة إلى أن تتخذها وسيلة أساسية لمقاومة تأثيرات الحروب على الجميع، بما في ذلك أخلاق الشيوخ الذين تحوّلوا من الحماة إلى الطغاة المستغلين لظروف الناس بأبشع الطرق.