كنا أربعة: كاتب السطور، ورئيس اتحاد أدباء صنعاء مُحَمد القعود، ونائب الأمين السابق لاتحاد أدباء اليمن أحمد ناجي أحمد والشاعر مُحمّد العديني… وبينما كنا نرتشف الشاي ونتبادل الحديث في مقهى «مُدهِش» وسط المدينة، انضم لطاولتنا القاص زيد الفقيه وكيل الهيئة اليمنية للكتاب نائب رئيس نادي القصة اليمنية، وما أن قعد زيدٌ حتى ابتدرنا: «باركوا لي؛ فهذه مجموعتي القصصية الجديدة». ونحن نتلقف معاينة إصداره الجديد مُبتهجين، رميناه بتساؤلنا عن مصدر تمويل طباعته؛ وهو تساؤل بات مشروعاً ومألوفاً في الداخل اليمني، في ظل ما وصلت إليه الأوضاع مع ارتفاع مؤشرات الفقر.. حينها قال: بعتُ إحدى أسطوانات الغاز من مطبخ منزلي لطباعة هذا الكتاب! لم نتفاجأ كثيراً؛ إذ نُعايش يومياً في الداخل اليمني حكايات عديدة من فصول المعاناة الناجمة عن الحرب الدائرة، التي تُضاعِف، يومياً، من مأساة هذا البلد الفقير.
هنا، قد ينبري أحدهم؛ فيسأل مُستغرباً: كيف لا يستطيع وكيل الهيئة اليمنية للكتاب طباعة مجموعة قصصية مكونة من 66 صفحة من القطع الصغير؟ إن هذا السؤال الطبيعي والمنطقي في ظاهره يعكس، بالتأكيد، عدم معرفة بما صار إليه الوجع اليمني مع توقف صرف الرواتب الحكومية منذ عام تقريباً، خاصة في المحافظات الشمالية والغربية، وإيقاف صرف الموازنات التشغيلية لمعظم المؤسسات الحكومية، وفي مقدمتها المؤسسات الثقافية وتدمير الغارات لمعظم إمكانات العمل والإنتاج. ونتيجة لهذا الواقع؛ فإن معظم اليمنيين هناك يعيشون (أزمة حياة) إن جاز التوصيف نتيجة (أزمة ضمير) لدى أطراف الصراع، ومَن يصطف معهم ويسندهم. تقول تقارير دولية إن سبعة ملايين من اليمنيين يهددهم خطر المجاعة و20 مليونا بحاجة للمساعدات.
إلى ذلك؛ قد يسأل ثانٍ مستنكراً: ولِمَ يبيع كاتبُ أو أديبُ إحدى أسطوانات الغاز من مطبخ منزله لأجل طباعة كتاب؛ إذ إن (لقمة العيش) أهم؟ طرح هذا السؤال بهذه الصيغة يعكس رفضاً لموقف الكاتب في تقديم النشر على التزامات المعيشة، على اعتبار أن نشر الكتاب ليس أهم من الخبز، أو حتى يوازيه في الأولوية. قد نتفق جدلاً مع ظاهر هذا الرفض والاستنكار؛ إلا أن ثمة توضيحا لا بد منه لإزاله اللبس وتذويب جليد مرجعية ذلك الوعي الرافض والمستنكر. وهنا سنتجاوز الحديث عن الكتاب كغذاء روحي وصانع نهضة، لنتحدث عن علاقة الكاتب بالكتاب والنشر، ونقول إن مَن أدركته حِرفة الكتابة والأدب تُصبح علاقته بالكتابة والنشر علاقة حياة لا يمكنه الاستغناء عنها مثلما لا يستطيع الاستغناء عن (لقمة العيش) في علاقته بالحياة؛ «ولهذا ليس مستغربا أن نجده، وهو يعاني من افتقاد أساسيات الحياة أن يضع الكتابة والنشر ضمن تلك الأساسيات، وأحياناً قد يُقدّم طباعة كتاب على لقمة العيش»، يقول زيد الفقيه لـ»القدس العربي».
ونضيف إلى قوله إن حاجة الكاتب للكتابة والنشر في الأوقات غير الطبيعية تصبح أكثر أهمية؛ وإن كانت نوعيتها لا تكون بالضرورة أفضل مما تكون عليه في أوقات الاستقرار؛ حيثُ تمنح الكتابة الأديب، خلال الحرب حافزاً للبقاء وتزوده بما يحتاجه من يقينٍ بالذات وأملٍ بالمستقبل، بل إن ذلك يُمثل حاجة أكثر أهمية في واقع كالوضع الإنساني والمعيشي المتدهور في اليمن، وتحديداً في المحافظات الشمالية، التي توقف فيها عمل معظم منابر النشر الورقي كالصُحف والمجلات ودور النشر، منذ اشتعال الحرب في آذار/مارس 2015، كما تراجعت الحريات.
في المجموعة القصصية الصادرة حديثاً بعنوان «مفاتيح» للقاص الفقيه سننوه بجانبين: الأول: طبيعة طباعة ونشر الكُتب في صنعاء في الوقت الراهن جراء الحرب. والثاني: علاقة الكتاب بالحرب من خلال توضيح بعض ملامح مضمون المجموعة موضوعياً وفنياً.
على صعيد طباعة المجموعة؛ لم يصدر الكتاب عن دار نشر، كما يُفترض أن يكون، كما لم يصدر عن مطبعة أيضاً… لتكشف تجربة صدوره مدى إصرار الكاتب اليمني على النشر، وفق الإمكانات المتاحة والمقبولة. في الوقت الذي تكشف، هذه التجربة، مدى معاناة الناس هناك، بمن فيهم الكتُاب والمُبدعون؛ فإنها تكشف، أيضاً، المستوى الذي وصلت إليه معاناة طباعة ونشر الكتاب محلياً تحت معاناة الحرب؛ وهو المستوى الذي وصل حد لجوء الكُتاب، ممَن يعجزون عن دفع رسوم الطباعة في القاهرة أو بيروت، إلى نظام تقليدي؛ متمثل في طباعة الكتاب اعتماداً على مراكز تصوير المستندات، التي تُعيد تنضيد الكتاب حاسوبياً، ومن ثم تصوّره عبر آلات التصوير وتجمعه يدوياً بين دفتي الغلاف. ويمكن للكاتب، من خلال هذا الآلية، أن يطبع مئة نسخة بكلفة لا تتجاوز عشرة آلاف ريال يمني (أقل من خمسين دولارا أمريكيا). كأن الحرب قد عادت باليمن خمسين سنة وأكثر إلى الوراء. على صعيد قصص المجموعة؛ فقد ضمت أكثر من مئة نص قصصي قصير جداً، وتُعدّ المجموعة الثالثة للقاص، والأولى له كمجموعة كاملة في القص القصير جداً.
توزعت النصوص في قسمين، إن جاز التقسيم؛ فالقسم الأول: كان عبارة عن نصوص متفرقة تلتقي في كونها خواطر ومضية قال فيها الكاتب موقفه من فكرة أو قضية أو حالة فرضها الواقع اليمني الراهن تحت تأثير معاناة الصراع الممتد منذ عام 2011؛ فيما تضمن القسم الثاني في نهاية المجموعة ثماني قصص عنونها بـ»يوميات حرب 2015»، تناول الكاتب، في معظمها، آثار القصف على صنعاء من طائرات التحالف، ونتائج الصراع الدائر على حال الناس… ومن عنوان هذا القسم يتضح لنا أن الكاتب انتهى من كتابة المجموعة عام 2015؛ وبالتالي فقد ظل متعثراً في طباعتها منذئذ، بل إنه، ربما، لم يُخضِع النصوص، عقب تلك الفترة، لمزيدٍ من المراجعة والتشذيب؛ فهو لو فعل ذلك لكانت تداعيات الحرب في ما بعد 2015، قد عكست نفسها في المضمون، ولظهرت أيضاً، المعالجة الفنية للنصوص أفضل مما جاءت عليه؛ حيث يُلاحظ القارئ أن السياقات السردية والبنائية والبلاغية واللغوية في بعض القصص لم تخضع لقدرٍ كافٍ من المراجعة… ومثل هذا نراه أمراً طبيعياً في الكتابات التي تظهر خلال الحروب؛ ففي ظروف كهذه تتخفف، غالباً، علاقة الكاتب بالكتابة من كثير من التزامات الصرامة والعناية؛ كالذي يكون عليه معها في أجواء الاستقرار، حيث يكون أكثر حرصاً على إخراجها بإطار موضوعي أفضل وحُلة فنية أجمل.
إلا أن إصرار الكاتب على إصدار هذه المجموعة في ظروف وإمكانات كهذه يُمثل منجزاً يُحسب له، كما أن تجربته معها مقارنة بتجاربه في المجاميع السابقة؛ يجعل منها خطوة متقدمة، لاسيما وقد خُصصت للقصص القصيرة جداً؛ بما يمثله الاشتغال على هذا الجنس الأدبي السردي الحديث من تحدٍ واختبارٍ لتجربة أي كاتب لما تتطلبه من موهبة خاصة ومهارة نوعية في التعامل مع خصوصية هذا الجنس (الإيحائية الاختزالية البيانية) مع المحافظة، في الوقت، على روح السرد وأدواته وعناصره.
من عنوان المجموعة يتجلى إدراك الكاتب لخصوصية التجربة فـ«مفاتيح»، الذي لم يرد عنوانا لنصٍ في المجموعة، أراد الكاتب، باختياره عنواناً للمجموعة، القول إن النصوص ليست سوى مفاتيح لما لم يقله؛ وبالتالي لم يكن موفقاً في إضافة كلمة (مُشفّرة) إلى وصف المجموعة الكائن في الغلاف.