أسوأ ما يفعله الرسامون العرب اليوم أنهم ما زالوا يبحثون في المناطق التي انتهى الرسامون الغربيون من البحث فيها.
ما لا يفهمه رسامونا أن تلك المناطق قد استنفدت وأعطت كل ما لديها. أراض لم تعد صالحة للتنقيب. لو أن هناك شيئاً يستحق البحث في تلك الأراضي لمّا تركها الأوروبيون وأداروا لهم ظهورها.
لا بأس من أن يكون المرء مغامراً، غير أن المشي على أرض مطروقة لا يعد من المغامرة في شيء. هناك نوع فني استهلاكي اسمه الحداثة العربية وصل اليوم إلى درجة التسويق التجاري المحض. لقد انتهى زمن المغامرة. ليس هناك متمردون كبار. ولأن المتمردين هم حملة الفن الحقيقي فلا فن من غير متمردين.
هذا ما يجب أن نعترف به.
هناك سوق تفرض إملاءاتها على الفنانين وهم يفعلون ما يقدرون عليه من أجل تلبية احتياجات تلك السوق. لن يكون الحديث في هذه الحالة عن الذائقة الفنية ضرورياً. ذلك لأن الذائقة هي الأخرى صناعة. يمكن لأصحاب الأموال أن يفرضوا ذائقتهم على السوق. وهو ما نجحوا في تكريسه.
أعلينا أن ننكر أن الفنان العربي صار يبحث عن مشتر لأعماله أكثر مما كان يفعل في خمسينات وستينات القرن الماضي؟
لقد وقع الفنانون العرب في غالبيتهم في مصيدة السوق. وهي مصيدة فيها من الإكراه والتزلف والنفاق والمحاباة الشيء الكثير. ألا يعني ذلك أن الحرية صارت وهماً؟
في المسافة التي تفصل بين السوق والحرية تكمن أزمة الفن في العالم العربي وهي أزمة وجود ومصير. فما بين أن يكون الفنان صانعاً يخدم شروط السوق وبين أن يكون خالقاً ومغيراً ونافخاً الروح في حياة مجاورة لا نعيشها في شكل مباشر هناك الكثير من العثرات المعوقة.
لقد تراجع التفكير في الفن لمصلحة إنجازه وفق وصفات جاهزة.
قلة هم الرسامون العرب الذين لا يرسمون وفق وصفات جاهزة، يثقون بقدرتها على فتح أبواب السوق أمامهم. معايير السوق صارت هي الأساس للتمييز بين فنان وآخر. هناك فنانون محظوظون وآخرون غير محظوظين.
المحظوظون هم من يحظون بإقبال السوق على أعمالهم وهم أقلية سعيدة من وجهة نظر غير المحظوظين ممن أعرضت عنهم السوق وهم أكثرية.
غير أن ما يجمع الفئتين سقوطهما المريع في فخ السوق وتخليهما عن توق الفنان الحقيقي إلى الحرية.
من المؤسف حقاً أن يتخلى الفنان عن أعظم هبات الفن، أقصد الحرية. هناك مَن يعتقد أن فناً قديماً لا يمكن أن يجد له ملاذاً مناسباً، إلا من خلال السوق الذي ستضفي عليه قيمة ليست مستمدة منه.
أعرف أن ما أقوله لن يكون مقبولاً بالنسبة إلى الفنانين العرب، إلا إذا نجحت في جرهم إلى منطقة ينظرون من خلالها بعيني، وهو أمر غير ممكن اليوم في الوضع الذي يعيشه الفنان العربي.
وقد يجد أولئك الفنانون، المحظوظون وغير المحظوظين على حد سواء في القول بأن السوق صارت هي هاجس الفنانين عبر العالم ما يعوضهم عن خسارة حريتهم. هذا إذا كانوا قد اقتنعوا بأن وصفات الطبخ الجاهزة التي صاروا يعملون عليها قد حطمت خيالهم الحر.
غير أن هناك اختلافاً جوهرياً بين ما يحصل في الغرب في شكل خاص وما يحصل في العالم العربي في ذلك الشأن. ذلك الاختلاف يتعلق بآليات العلاقة التي تربط الفنان بالسوق. فالسوق الفنية في الغرب لا تفرض شروطها على الفنانين بل تفرض الفنانين على زبانئها. وبذلك يحتفظ الفنان بحريته ويكون في منأى عما يفعله تجار الفن من أجل ترويج بضاعتهم.
لو لم تكن هناك سوق فنية لما شهد الفن في الغرب ذلك الانتشار الذي نعرفه. لقد حلت السوق محل الكنيسة والقصور الملكية في مسألة رعاية الفنانين. وكانت النظرية واحدة. مَن يدفع المال يكون ممتناً لحصوله على عمل يحظى بالقبول من قبل الخبراء في سوق الفن.
لن يحلم الفنانون العرب بوضع شبيه.
فالمعادلة ليست في صالحهم. كل أشكال سوق الفن التي نشأت في العالم العربي كانت بدائية إذ لم تكن سوى عمليات بيع وشراء تقع بالصدفة وفي اطر ضيقة، لم تكن فكرة الاستثمار حاضرة فيها. لذلك كان الفنان العربي يجهل الآلية التي يتبعها في تسعير أعماله. حتى سنوات قريبة لم تكن حيازة الأعمال الفنية تمثل ثروة لمقتنيها إلا على المستوى المعنوي.
أزمة الفنان العربي اليوم تكمن في أن السوق لم تحل مشكلته في الترويج لأعماله مع الإبقاء عليه بعيداً من مزاج زبائنها بل صنعت منه خادما لذلك المزاج. أغلب الفنانين العرب صاروا تابعين لمروجي أعمالهم الذين يعرفون من خلال علاقاتهم ما الذي ينسجم مع نزوات الأثرياء الجمالية.
لن تعيننا العودة إلى طهر لؤي الكيالي وشاكر حسن آل سعيد ورمسيس يونان ونذير نبعة وأحمد نعواش وعلي بن سالم وبول غراغوسيان ومحمد القاسمي وسواهم من الرعيل الذي أسس للرسم الحديث في العالم العربي في القفز على حقيقة أن الرسام العربي صار يتيماً في سوق لا ترحم.