[ أرشيفية ]
تعود معرفة أهل اليمن بالغناء إلى زمن سحيق، لم يُعرف على وجه الدقة، لنُدرة الدراسات المتخصصة في هذا الشأن وغياب المنهجية والوسيلة العلمية في تناوله، غير أن الغناء اليمني شهد انطلاقته الأولى على إثر سقوط الأندلس، حيث عاد اليمنيون المقيمون هناك إلى بلدهم، حاملين معهم محفوظات شتى من الموشحات الأندلسية وفنون طربية تعود لعدد من الشعوب عدا العديد من الآلات الموسيقية.
في الوقت نفسه تذكر بعض المصادر أن غناء أهل اليمن يرجع إلى "عَلَس بن زيد ذي جدن"، فقد زُعِمَ أنه أول من تغنَّى في اليمن، وأنه كان من ملوكها. ويُعيد بعض البحَّاثة المصادر الأولى للغناء العربي إلى عاد وثمود آل تُبَّع ويعرب وطسم وجديس وغيرها من منابع الحضارة الحِمْيَرية اليمنية القديمة.
أما ما يتصل بالتراث الشعري الغنائي في اليمن فإن جزءاً كبيراً منه قد آل إلى زوال، إذْ تعرّض للإهمال والضياع على مرّ السنين، حتى إن كثيراً من نصوصه لم يُعرَف قائلوها، وكثيراً منها وُجِدت مجزوءة أو مُطمَّسة، كما أن العديد من قدماء الشعراء ممن ثُبتت أسماؤهم على نصوصهم لم تُعرَف سِيَرهم الذاتية وأخبارهم في أزمانهم، وبعضهم وجدت له قصيدة يتيمة، أو ربما كانت لهم قصائد مُغنَّاة ولكنها غير منسوبة إليهم بحسب ما جاء في "موسوعة شعر الغناء اليمني".
تأثر شعر الغناء اليمني مثلما تأثرت الموسيقى أو الجملة اللحنية في الأغنية اليمنية بتراث بعض الشعوب كالفرس والأتراك والأحباش والهنود، جراء التداخل الاجتماعي والثقافي لليمنيين مع تلك الشعوب، إما بسبب الغزوات منها لليمن، وإما بسبب التجارة والهجرات اليمنية إليها، وهو أمر سائد في ثقافات وآداب وفنون جميع الشعوب.
والخوض في مضمار الغناء اليمني -بمصادره ومشاهيره ومدارسه وألوانه وطقوسه ومراحل تطوره- قد يدعونا إلى ركوب بحرٍ محيط وعميق ومتلاطم الأمواج، لذا سنعبر بهذا المقال على زاوية ظلالية منه تتصل بالشعر الغنائي اليمني، عبر نماذج يسيرة من أعلامه ونصوصه وألوانه الرئيسية.
إن ألوان الغناء اليمني عديدة، غير أن أكثرها أصالة تاريخية وخصوبة جمالية هي: الصنعائي، اللحجي، اليافعي، والحضرمي. وحظيت هذه الألوان بقدر كبير من الإبداع الشعري، وشعر الغناء اليمني ينقسم إلى: حُميني وهو مكتوب أو منطوق بالعامية، والآخر حَكمي وهو الفصيح منه.
وقد ظل أغلب الشعراء والملحنين والمطربين اليمنيين متواجدين بقصائدهم وموسيقاهم وأصواتهم في نطاق هذه الألوان الأربعة التي تمتّعت بقاعدة عريضة من المستمعين، وإنْ توافرت لاحقاً -وصولاً إلى اللحظة- مكانة غير محدودة للونين آخرين: التعزّي والعَدَني.
تنوعت أغراض الشعر الغنائي اليمني، غير أن بعضها كان يزدهر على حساب الأخرى في فترات وظروف محددة، تبعاً لطبيعة المرحلة الزمنية وما يتصل بها من أحداث أو يرافقها من وقائع، فالشعر الوطني أو الحماسي -مثالاً- ساد في فترات النضال الثوري ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب والحكم الإمامي في الشمال، وبرز الشعر السياسي في فترات متقطعة بالتناسب مع أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية مرحلية. أما الرومانسي منه فقد أخضوضر في فترات الاستقرار والسلم والازدهار، برغم أنها لم تكن يوماً طويلة الأمد في هذا البلد.
كما أن من أكثر الأغراض شيوعاً في شعر الغناء اليمني موضوع الهجرة والاغتراب، وهو الطابع الاجتماعي الأكثر أثراً في هوى المتلقّي اليمني والأكثر تأثيراً في وجدانه، نظراً لتصويره معاناة طاغية الحضور في الخريطة الاجتماعية والنفسية اليمنية منذ زمن موغل في القِدم.
ومن نافل القول إن الأغنية اليمنية قد شاعت وذاعت منذ عهد قديم في أرجاء البلاد العربية عموماً ومنطقة الجزيرة والخليج خصوصاً، عدا شمال وشرق أفريقيا، وما تأتَّى لها ذلك الانتشار والذيوع إلاَّ لأصالتها شعراً وطرباً، غير أنه من المؤسف أن قسماً كبيراً من هذا التراث النفيس قد تعرَّض للسطو ونُسِبَ إلى تراث الشعوب الأخرى.
ومن أبرز شعراء الأغنية اليمنية ممن كان لهم عظيم الأثر في ازدهارها وانتشارها واستمرار ألوانها ومدارسها المختلفة في التطور والتألق الابداعي:
عبد الله عبد الوهاب نعمان، ولقبه "الفضول"، وهو أبرز من كتب الأغنية بلهجة أهل تعز، كما أنه صاحب القصيدة الملحمية التي صارت النشيد الوطني اليمني. ولد سنة 1917 في ريف تعز وتوفي سنة 1982.
تتنوع أعماله بين القصيدة السياسية والنجوى العاطفية والأنشودة الوطنية، والأغنية التي تعالج ظاهرة اجتماعية. كان غزير الإنتاج بالفصحى والعامية على السواء، وشكَّل ثنائياً حميماً مع المطرب الكبير أيوب طارش.
ومن أجواء النشيد الوطني: (في خُطى الواثق تمشي قدمي/ مثلُ سيلٍ وسطَ ليلٍ يرتمي/ هي أرضي زرعت لي في فمي/ بسمة الخير وناب الضيغمِ/ وهو إيماني يُؤاخي في دمي/ فرحة النصر وحزن المأتمِ/ فوجودي ليس يخشى عدمي ).
حسين أبو بكر المحضار، وهو أهم الشعراء الذين أثْروا اللون الغنائي الحضرمي بعدد كبير من القصائد والألحان، والتي شكَّل بمعظمها ثنائياً طويل الأمد وخصب التجربة مع المطرب الكبير أبو بكر سالم بلفقيه. ولد المحضار في مدينة الشحر بحضرموت سنة 1930 وتوفي سنة 2000. تنوعت قصائده في أغراضها: سياسية وعاطفية واجتماعية ووطنية، وزخرت بجمالية الصورة وطلاوة الجملة التي عكست أثر البيئة الحضرمية الواضح في شعره.
كما أغنى المحضار لون "الدان" الحضرمي وهو من أهم ألوان الموروث الشعبي الغنائي والشعري في حضرموت خصوصاً واليمن عموماً.
من إحدى غنائياته المتميزة: (يا رسولي توجَّه بالسلامة.. زُرْ صحابي وبلِّغهم سلامي/ قُلْ لهم عاد شي في الوصل حيله.. ليه إذا وعدوا خلفوا المواعيد/ بعدهم ما هِنِي طرفي منامه.. بات ليلي تزعَّل في منامي/ واذكُر الاّ ليالينا الجميله.. لي مضت في سفوح الخُرَّد الغيد/ خُضت بحر الهوى سبعين قامه.. بعد ما طاب في العشقه مقامي/ شُفت أهوال جَم ما هي قليله.. يا ظنيني تشيِّب بالمواليد).
لطفي جعفر أمان، ولد في مدينة عدن سنة 1928 وتوفي في القاهرة سنة 1971. تتميز أشعاره بالصورة الفنية الجميلة والجملة الشعرية المكثفة، وقد ساد فيها الموضوع الرومانسي وإنْ تناول بعض شعره هموم وطنه وشعبه اليمني والعربي بل والهموم الإنسانية والأممية عموماً. يُعَد لطفي أمان سيد الشعر الغنائي باللهجة العدنية بلا منازع، برغم ازدحام دواوينه بعدد كبير من أجمل أغانيه وأناشيده المكتوبة بالفصحى. وقد شكَّل ثنائياً متميزاً مع المطرب الكبير أحمد قاسم، إلاَّ أن المطربين الكبيرين محمد مرشد ناجي وأبو بكر سالم بلفقيه حظيا أيضاً بقدر وافر من إبداعه.
ومن أجمل إبداعاته الوطنية: (يا مزهري الحزين.. مَنْ يُرْعِشُ الحنين.. إلى ملاعب الصبا، وحُبّنا الدفين/ هناك، حيث رفرفتْ على جناح لهونا، أعذب ساعات السنين/ يا مزهري الحنين.. الذكريات الذكريات/ تُعيدني في مركب الأحلام للحياة/ لنشوة الضياء في مواسم الزهور/ يستلّ من شفاهها الرحيق والزهور).
أحمد فضل العبدلي، واشتهر بلقب "القمندان" وهو تحريف عامي للفظة "كوماندر" أي القائد العسكري، فقد كان شاعرنا أميراً وقائداً من الأسرة السلطانية التي حكمت منطقة لحج قبل استقلال البلاد عن بريطانيا. ولد في حوطة لحج سنة 1882 وتوفي فيها سنة 1942. يُعَد القمندان مؤسس اللون الغنائي اللحجي. وإنتاجه غزير بالفصحى والعامية وتنوّع بين الوطني والغزلي والاجتماعي، ولأنه امتلك موهبة التلحين فقد كانت معظم أغانيه من ألحانه، وقد غنّى له معظم مطربي لحج وعدن.
له أغنية شهيرة اسمها "نُجيم الصباح" تزخر بالحِكَم والطُرَف الشعبية في لبوس اجتماعي وعاطفي سلس الحبكة، ومن أجوائها: ( نُجيم الصباح.. إيش جلَّسك بعد ما غِبْنا/ نجيم الصباح.. سامِر على الورد والحِنَّا/ نجيم الصباح.. سامر على الفنّ والمَغْنى/ نجيم الصباح.. اعطف على الصاحب المُضْنى/ نجيم الصباح.. وكلّما عوَّدوا عُدْنا/ نجيم الصباح.. طاب السمر، كلنا طُبْنا).
علي علي صبرة. من أبرز شعراء الأغنية الصنعائية، ولد سنة 1938 وتوفي سنة 2009. وقد شكَّل مع المطرب الكبير علي علي الآنسي ثنائياً ومرموزاً بديعاً للون الغناء الصنعائي الذي يُعَد من أعرق وأجمل وأخصب الألوان الغنائية اليمنية.
ولصبرة إنتاج شعري غنائي ثري بالفصحى والعامية وفي شتى الأغراض، وقد أبدع في غنائيات الغزل وفي الأغاني الوطنية أيّما إبداع.
من أغانيه الغزلية التي ذاع صيتها: ( أهلاً بمن داسَ العذول واقبَلْ.. وطَلْعِتُه مثل الهلال وأجمل.. ومن تعدَّاه في الطريق يُقتَل.. بلَحُظُه القتَّال شلّه الله/ أهلاً بأحبابي وبيت ناسي.. حيَّا على عيني وفوق راسي.. أهلاً بكم يا نشوتي وكاسي.. ومن لِحُبّه قد خلقنيَ الله/ ما مقصدي إلاَّ أضُمّ قَدَّك).
جابر أحمد رزق، وهو من أشهر من تغنَّى المنشدون اليمنيون بشعره الصوفي، كما غنَّى له شيوخ الطرب اليمني في مطلع القرن الماضي كالعنتري والماس وباشراحيل والجرَّاش ولد سنة 1842 في إحدى ضواحي صنعاء، وتوفي سنة 1905 في تهامة اليمن (محافظة الحديدة حالياً) التي ازدهر أدبه وفنه وعلمه فيها لتأثّره بالأفكار والمدارس الصوفية التي ازدانت بها تلك المنطقة منذ قديم العهد.
من أجواء شعره الصوفي: ( ربّ حُسْن المَخْتَم.. شأنُك الكَرَم/ بالرسول الأعظم.. أشرف الأمم/ يا بديع المبسم.. ثغرك ابتسَم/ يا بَرَد هذا الفم.. جلَّ من نَظَم/ ورد خدّك من كم.. والحلا بِكَم/ شَمّه لا يُحرَم.. قُلْ: نعم، نعم).