بعدما دمرت الحرب الأهلية 90% من مساحة مقديشو، نهضت عاصمة الصومال بعد عودة المغتربين من ذوي رؤوس الأموال والخبرات، وعملهم في إعادة الإعمار وتغيير واقع المدينة، بينما لا تزال في مواجهة مع الصور النمطية السلبية.
- يعمل الأديب الصومالي فارح بنين بوص، مدير شركة صوم برس Sompress للترجمة والطباعة، على تغيير الصورة النمطية عن بلاده التي عاشت حرباً أهلية على مدى عقدين (من عام 1990 وحتى 2009)، عبر نشر صور التطور العمراني في مقديشو عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يقول لـ"العربي الجديد".
ودمرت الحرب الأهلية 90 بالمائة من مساحة مقديشو الكلية التي تبلغ 91 كيلومتراً مربعاً، حسبما يقول الباحث الصومالي أنور أحمد ميو، مدير قسم البحث العلمي بالجامعة العربية الخاصة في العاصمة، الذي له مؤلفات عدة، منها كتاب "المدن الصومالية: النشأة والتاريخ والحضارة"، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "البنية التحتية ومؤسسات الدولة تعرضت للدمار في مقديشو التي كان يسكنها قبل الحرب 2 مليون و150 ألف نسمة، ما اضطر أغلبهم إلى النزوح".
"وفي عام 2007 فرّ نحو 700 ألف شخص من مقديشو، وفي العام التالي تبعهم 160 ألفاً خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى سبتمبر/أيلول 2008"، وفق بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين المنشورة في 26 سبتمبر 2008، بعنوان "الصومال: نزوح جماعي جديد من مقديشو، ولا يزال الآلاف يصلون إلى كينيا".
تطور البنية التحتية في المدينة
"اليوم يتغير كل شيء"، كما يقول الخمسيني عبد الفتاح أحمد آدم، الذي فرّ من مقديشو إلى كينيا في عام 1993 بعد سقوط قذيفة على منزله، أدت إلى مقتل ابنه الأكبر، ويضيف مشيراً بيديه إلى المباني والإنشاءات المحيطة: "منذ عودتي في عام 2015 لمست حركة التوسع العمراني وإصلاح البنية التحتية اللذين غيرا وجه المدينة".
و"مع استمرار الصومال في إعادة بناء مؤسسات الحوكمة الاقتصادية، فإن لديه العديد من الفرص للتوسع الحضري السريع، والاستخدام المتزايد للتقنيات الرقمية، والاستثمارات المخطط لها في الطاقة والموانئ والتعليم والصحة"، بحسب ما يؤكده البنك الدولي، الذي يشير إلى "تعافي نمو الناتج المحلي الإجمالي وبلوغه 2.9 بالمائة في عام 2021، بعد تقلصه في عام 2020 إلى 0.2 بالمائة"، موضحاً في بيانات منشورة على موقعه الإلكتروني أن "الناتج المحلي انخفض في عام 2022 إلى 1.7 بالمائة، ومن المتوقع أن يرتفع في عام 2024 إلى 3.7 بالمائة".
"وأخذ المد العمراني بالتطور في مقديشو بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أوردغان (زارها للمرة الأولى عندما كان رئيساً للوزراء) في أغسطس/آب 2011، برفقة وفد مكون من وزراء ورجال أعمال"، حسبما يقول عبد الغني محمد عبدي، مدير قسم السياحة بوزارة الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة الفيدرالية، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "شركات تركية ساهمت في مشاريع إعادة الإعمار بالعاصمة".
و"في عام 2013 وقعت الحكومة الصومالية اتفاقية مع شركة Almnahdh التركية (متخصصة في مجال الإعمار) لبناء مطار مقديشو بتكلفة 10 ملايين دولار أميركي، فيما تولت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (حكومية) في ذات العام، تعبيد طرق بطول 40 كيلومتراً في العاصمة، ونصب 800 عمود إنارة في شوارعها"، كما يقول المهندس سعيد آدم سعيد، مستشار البنية التحتية بوزارة الأشغال العامة وإعادة الإعمار والإسكان بالحكومة الفيدرالية، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "تركيا بنت 4 مدارس، وبنت جامعة زمزم للعلوم والتكنولوجيا".
كما "موّل صندوق قطر للتنمية مشروع طريق جوهر وطريق أفجوي اللذين يربطان مقديشو ببقية الأقاليم الأخرى، بتكلفة 72 مليوناً و350 ألف دولار" كما يضيف المهندس سعيد.
و"في بداية 2014، تم بناء مستشفى أردوغان الذي افتُتِح في عام 2015، من قبل الوكالة التركية للتعاون والتنسيق، بتكلفة 135 مليون دولار، ويحتوي على 241 سريراً، ويقدم خدمات طبية متنوعة لسكان مقديشو والمناطق المحيطة بها"، حسب ما يوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة مقديشو الخاصة، عبد الله أبو بكر عبدلي، قائلاً لـ"العربي الجديد": "بنيت مستشفيات أخرى، هي المستشفى الصومالي السوداني، والمستشفى المصري ومستشفى الجزيرة التخصصي الذي ساهمت في بنائه مملكة البحرين".
عودة المغتربين ساهمت في إعادة الإعمار
توسعت مقديشو رأسياً وأفقياً بعد استحداث ضواحٍ حضرية جديدة، منها Ceelasha Biyaha غرب العاصمة، وحواء عبدي جنوب غربي مقديشو، كذلك استُحدِثَت 3 مديريات جديدة (واحدة فقط اعتمدت رسمياً تأسست في عام 2006)، ليصبح عدد المديريات التي يعيش فيها 2.5 مليون نسمة حالياً، 17 مديرية، حسبما يقول أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة مقديشو الخاصة، عبد الله آدم شيخ لـ"العربي الجديد".
و"بدأت بوادر التعافي تظهر في مقديشو بعد الانتخابات الرئاسية التي أجريت في سبتمبر 2012، والتي فاز فيها حسن شيخ محمود، وتشكلت الحكومة الفيدرالية برئاسة عبدي فارح شردون"، حسب بوص، الذي قال لـ"العربي الجديد": "تعود هذه الطفرة النوعية التي تشهدها مقديشو إلى عدة عوامل، منها الهدوء النسبي والتحسن الذي تشهده الصومال بصورة عامة، وعودة الكثير من أبناء الجاليات الصومالية من المهجر بالخبرات والمال".
ومنذ مطلع عام 2012 عاد إلى مقديشو ما يناهز 3 بالمائة من المغتربين، المقدَّر عددهم بمليوني مغترب، ليرتفع عدد العائدين في عام 2017 إلى 5 بالمائة، حسبما يقول أحمد محمد، المستشار الإعلامي بقسم شؤون المغتربين والجاليات بوزارة الخارجية بالحكومة الفيدرالية، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "30 بالمائة من إجمالي المشاريع الريادية والأعمال التجارية الأخرى في مقديشو يديرها مغتربون عائدون، ومنها شركات اتصالات، بالإضافة إلى تشغيل المرافق الصحية والعقارات والمطاعم والحدائق العامة".
وهو ما يؤكده عبد الرزاق علي، نائب المدير العام لبنك الصومال العالمي الخاص، والذي عاد إلى مقديشو مع مجموعة من المغتربين في عام 2013 وبدأ بتأسيس البنك، قائلاً لـ"العربي الجديد": "ساهم البنك في تمويل مشاريع عقارية في مقديشو، أولها انطلق في مديرية هدن وسط العاصمة في عام 2014".
وفي عام 2018 كان البدء بتشييد برج علي مهدي بالقرب من شاطئ ليدو السياحي الواقع على المحيط الهندي بالعاصمة، ويتكون البرج من 14 طابقاً، بتكلفة إجمالية بلغت مليوني دولار، حسبما يقول المهندس المعماري عبد العزير حسن، الذي يعمل في شركة هند للمقاولات والتجارة العامة، مشيراً إلى بناء 5 مراكز تجارية (مولات) في المدينة.
ويبلغ عدد الفنادق في مقديشو 52 فندقاً، و3 حدائق سياحية كما يقول عبد الغني محمد عبدي، مشيراً إلى تشييد مجمع سفاري السكني والتجاري في مديرية هدن وسط العاصمة، والذي انطلقت أعمال بنائه في عام 2014، بتكلفة 168 مليون دولار، ويتكون المجمع من ثلاثة مبانٍ، تضم 48 شقة تلاها مشروع قرية الجزيرة "سفاري" السكنية وبرج سفاري (قيد الإنشاء).
وتلعب البنوك المحلية دورًا حيويًا بارزًا في الاستثمار وتشييد بنايات جديدة ومشاريع عقارية منذ عام 2015، بعد تنامي طلب الشركات ورجال الأعمال والمغتربين الصوماليين الراغبين في امتلاك منازل للسكن وللاستثمار، حسب فؤاد أحمد، مسؤول التسويق في بنك سلام الصومالي الخاص في مقديشو، والذي يقول لـ"العربي الجديد" إن بنك سلام موّل مشاريع عقارية في حي دار السلام، شملت المرحلة الأولى بناء 500 وحدة سكنية بتكلفة 20 مليون دولار، فيما شملت المرحلة الثانية بناء عمارات سكنية بتكلفة 15 مليون دولار.
محاولات للتغلب على تحديات النهوض
على الرغم من النهوض ومحاولة التوسع وإعادة بناء المدينة، إلا أن غياب التخطيط العمراني السليم من قبل الجهات المختصة، يزيد من العشوائيات القائمة التي تنامت خلال السنوات الست الماضية بسبب طبيعة مؤسسات الدولة الهشة، حسب المهندس سعيد، الذي لفت إلى أهمية إيجاد حلول للحد من مخاطر هذه الظاهرة، إذ أصبحت مقديشو عاجزة عن استيعاب مزيد من السكان، وتوفير احتياجاتهم من الكهرباء والمياه ووسائل النقل والصرف الصحي، ويقول: "الحاجة ماسة لتنسيق ومراقبة المشاريع التنموية والاعتماد على تخطيط عمراني مبني على أسس نموذجية حديثة وإعادة تحسين البنية الأساسية".
ويعود تفاقم ظاهرة البناء العشوائي إلى عدم فعالية القوانين أو فساد أجهزة الحكم المحلية، وفق ما يعتقده محيي الدين أويس يوسف، الرئيس التنفيذي لشركة ديغان للتصميم الهندسي، الذي قال لـ"العربي الجديد": "يوجد نقص كبير في الكوادر الهندسية والعمالة الفنية الماهرة بالبناء، وأغلب التصاميم الهندسية تتم خارج البلاد. وهذه لا تراعي خصائص البيئة والطبيعة الثقافية للبلاد، رغم أن الصومال كانت تتميز عن دول الجوار بالتخطيط العمراني الفريد الذي يمكن مشاهدته حالياً على خريطة المدينة، إذ إن معايير التصاميم السابقة كانت بريطانية أو إيطالية".
هل تغيرت الصورة النمطية عن الصومال؟
بعد هذه الطفرة العمرانية في العاصمة، لماذا لم تتغير الصورة النمطية عن الصومال؟ يجيب الأديب بوص، قائلاً: "يعود الأمر إلى عوامل عدة، من أبرزها الفوضى العارمة التي اشتهرت بها مقديشو والصومال عموماً على مدى عقدين من الزمن، فضلاً عن تشهير ومبالغات بعض الإعلاميين في وصف مقديشو بأنها مدينة الموت والخوف والخراب والدمار"، ويضيف: "في الوقت الذي كانت مقديشو تحترق، كان معظم دول العالم العربي ينعم باستقرار وأمن تام، ما جعل الإعلام يركز عليها وحدها، وعندما بدأت مقديشو تتعافى وتحاول النهوض من جديد، اشتعلت عواصم أخرى في العالم العربي مثل صنعاء وطرابلس والخرطوم ودمشق، ما صرف النظر نحو تلك المدن المحترقة".
و"ما نراه من قبل وسائل الإعلام من ترويج للصورة النمطية السلبية، يُعَدّ تضليلاً وبعيداً عن الموضوعية والحقائق الثابتة على أرض الواقع"، كما يقول الدكتور عبد الفتاح نور أشكر، وزير الدولة لشؤون الإعلام في ولاية بونتلاند لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن المتابع للشأن الصومالي، يلمس تغييرات جارية بقوة في البناء والتعمير.
ويتابع أشكر: "نحتاج إلى وضع استراتيجية إعلامية وطنية تواكب التطورات الحاصلة في البلاد وتغير الصورة النمطية عنها".