أمضى الطالب المصري "محمد عطا" سنوات طويلة في مدينة هامبورغ الألمانية في أثناء دراسته للتخطيط العُمراني هناك في تسعينيات القرن الماضي، ولم تكن هامبورغ محل إقامته ودراسته فحسب، بل وقاعدة تحرك منها وإليها بأريحية في خضم اعتناقه لـ"الفكر الجهادي" وتواصله مع تنظيم القاعدة، الذي أوصله في الأخير إلى تنفيذ مراده بركوب إحدى الطائرات يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، واختطافها ثم إجبارها على الارتطام بأحد برجَي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك الأميركية.
فمن هامبورغ في أقصى شمال ألمانيا، سافر عطا إلى باكستان وأفغانستان أكثر من مرة، وتوطدت علاقته بالتنظيم ورجاله، ومنها أيضا سافر إلى الولايات المتحدة في مطلع الألفية قبل هجمات سبتمبر بحوالي عام، للمفارقة لم تلفت بقية العواصم الأوروبية القريبة من هامبورغ نظر عطا، لكنه في الأخير قرَّر أن يزور إحداها: العاصمة التشيكية براغ.
عطا في براغ.. الخيط الواهي بين القاعدة وصدام
ركب عَطَا الحافلة من ألمانيا إلى براغ في ليلة 2 يونيو/حزيران لعام 2000، وفي اليوم التالي انطلق من براغ إلى الولايات المتحدة، في رحلة قصيرة لم تكن كافية كي يكتشف المدينة التشيكية، ولا مفهومة أيضا بالنظر لإمكانية السفر من ألمانيا إلى الولايات المتحدة دون المرور عبر التشيك، لكن رحلته إلى براغ لم تكن الأخيرة، إذ عاد عطا إليها في الأشهر الأولى من عام 2001، حيث التقى ضابطا بالمخابرات العراقية اسمه "أحمد خليل العاني".
لم يكُن مثل هذا اللقاء معتادا بالنسبة لعطا، الذي اقتصرت دائرته على إخوانه في الفكر الجهادي وتنظيم القاعدة ومَن لفَّ لفَّهم، ولم تُعرَف له أبدا صلة بجهات رسمية عربية، لا سيما مع ما يكنُّه الجهاديون عادة من كراهية شديدة للنظم العسكرية العلمانية مثل نظامَي صدام والأسد، ما إن وقعت هجمات سبتمبر/أيلول بعد أشهر قليلة، حتى تصدرت صورة عطا واسمه وسائل الإعلام الأميركية، وبدأ التنقيب عن الخيوط العديدة لمُنفِّذي الهجمات.
بعد أقل من شهرين ظهر وزير الداخلية التشيكي حينها "ستانيسلاف غروس" مُصرِّحا بأن عطا دخل التشيك مرتين، والتقى مسؤولا بالمخابرات العراقية، بل قال محققون في صلات عطا وقتها إنهم يعتقدون بأن اجتماعات أخرى جرت بين عطا والعاني، لم يكن عطا قبل هجمات سبتمبر لافتا لأنظار السلطات التشيكية بأي حال، بل كان العاني هو الشخص الذي خضع للمراقبة، فلطالما تشككت براغ في أمر النشاطات الاستخباراتية العراقية، وظنت بأن النظام العراقي راغب في تنفيذ "عمل إرهابي" ضد مقر "إذاعة العراق الحر" التي بثت رسائل مناهضة للنظام العراقي، وفقا لمجلة "كريستيان ساينس مونيتور"، وأنه قد يستخدم القاعدة لتنفيذ هجومه، لكن الكاتبة الأميركية "لوري ميلروي" اعتقدت بأن الاتصال بين النظام العراقي وعطا انطوى على ما هو أكثر من التعاون لصالح النظام العراقي، وأن الأخير أوكل إلى عطا ورفاقه مهمة تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
لم يكن غريبا على ميلروي أن تلقي اتهاما دون دليل بهذه الأريحية، وهي مؤلفة كتاب كامل عن نظام صدام حسين عام 2000 تتهمه فيه بخوض حرب لم تتوقف ضد الولايات المتحدة، وبتنفيذ تفجير عام 1993 في مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك، لذا ذاع صيتها في أوساط المحافظين الجدد من الساسة الأميركيين في أثناء إدارة جورج بوش الابن، لا سيما بعد أن وقعت هجمات سبتمبر، وكان منطقيا أن تظن ميلروي أن ما جرى من بنات أفكار صدام حسين، وسرعان ما أُطلِق العنان لسيل من السيناريوهات الافتراضية عن علاقة صدام بتنظيم القاعدة، وصلة براغ بنشاطات القاعدة، وغيرها من خيوط واهية ما انفكت تُنسَج دون دلائل دامغة.
على سبيل المثال: قال حينذاك "فريدريك شتاينهاوسلر"، خبير التسليح بجامعة ستانفورد، بأن عملية الحصول على يورانيوم عالي التخصيب بصورة غير مشروعة، التي كشفتها الشرطة التشيكية عام 1994، وضلعت فيها جماعات جريمة منظمة من بيلاروسيا وروسيا والتشيك وألمانيا، كانت في الأصل عملية لصالح مُشترٍ واحد، هو تنظيم القاعدة (دون أن يقدم دليلا طبعا)، ثم قال في تصريح لراديو الحرية إن تنظيم القاعدة حاول الحصول على رؤوس نووية عن طريق الشيشانيين حتى كشفتهم السلطات الروسية.
لاحقا أدلت صحيفة "الأوبزِرِفر" بدلوها وقالت إن العلاقات مع النظام العراقي لربما وفرت لعطا ورجاله جوازات سفر وتسهيلات لوجستية لتنفيذ هجمات سبتمبر، ثم ذهبت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية إلى ما هو أبعد، ونقلت على لسان "فينس كانيسترارو"، المسؤول الاستخباراتي الأميركي السابق، إن الهجمات الإرهابية على سفارتين أميركيتين في شرق إفريقيا عام 1998 أثارتا "انبهار" صدام حسين، وإنه أرسل مسؤولا أمنيا اسمه "فاروق حجازي" حينئذ ليتفاوض مع بن لادن وتنظيم القاعدة من أجل التعاون، وفي تلك الأثناء حامت شكوك الشرطة التشيكية حول اجتماع يُحتمَل أن يكون قد تم في براغ بين عطا وفاروق حجازي أيضا.
بعد عام واحد عرف الجميع بأن عطا وحجازي لم يلتقيا كما ذهبت تلك الشكوك، ليس ذلك فحسب، بل وعرف العالم مفاجأة أشد وطأة: إن محمد عطا لم يلتقِ مسؤولا عراقيا قَط في حياته، ولم يدخل مدينة براغ سوى سويعات في يونيو/حزيران 2000 كي يركب طائرة رخيصة الثمن إلى نيويورك، ولم يعُد إلى البلد الأوروبي الصغير قبيل هجمات سبتمبر كما زُعِم، بل ظل قابعا في محل إقامته بولاية فلوريدا الأميركية.
حرب العراق.. مطبخ صناعة الحقائق
وفقا لما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز" في أكتوبر/تشرين الأول 2002، فإن الرئيس التشيكي "فاتسلاف هافِل" مرر رسائل إلى البيت الأبيض "دون جلبة"، مفادها أنه ما من دليل دامغ على ما أثارته تقارير بخصوص لقاء عطا وضابط بالاستخبارات العراقية في براغ قبل أشهر من هجمات سبتمبر، وأضافت الصحيفة أن الرجل لم يشأ نفي التقارير علنا حتى لا يحرج مسؤولي حكومته ممن تعاملوا مع التقارير على أنها حقائق، وأهدوا إدارة بوش هدية ثمينة في خضم سعيها لإثبات الصلة بين تنظيم القاعدة ونظام صدام حسين، إذ إن التقارير كانت أول دليل "مزعوم" على وجود صلة مباشرة بين منفذي الهجمات والنظام العراقي حينها، لكن الهدية كانت قد أحدثت أثرها، وأدت غرضها إلى حد كبير، ويبدو أن إنكارها من براغ لم يغير كثيرا من حسابات الإدارة الأميركية التي مضت نحو غزو العراق بعد ستة أشهر في مارس/آذار 2003، ولم يشغلها ما هو حقيقي من عدمه بقدر ما شغلتها صناعة حقائقها الخاصة كي تمضي في قرار إسقاط النظام العراقي.
في حوار مع قناة "سي إن إن"، بتاريخ 2 ديسمبر/كانون الأول 2001، سأل المذيع "وولف بليتزر" ضيفه وزير الخارجية الأميركي حينها "كولِن باول" قائلا: "يقول بعض المسؤولين الحكوميين السابقين، وربما الحاليين، إن هناك إشارات قوية على صلة العراقيين بما جرى في هجمات 11 سبتمبر، وبالتحديد اجتماعات براغ بين محمد عطا ورجل الاستخبارات العراقية، بالنسبة لك هل هناك صلة فعلا؟"، فأتي رد باول دون تردُّد: "لا شك أن هذه الاجتماعات جرت بالفعل"، وفي حوار مع نائب الرئيس السابق "ديك تشيني"، بتاريخ 8 سبتمبر/أيلول 2002 مع قناة "إن بي سي" الإخبارية، سُئِل تشيني ما إن كانت تقارير تحركات عطا في براغ موثوقة بالفعل، فأتى رد تشيني الواهي والمتلاعب: "إنها موثوقة، لكن الطريقة المثلى لوصف هذه النقطة حاليا هي أنها لم تُؤكَّد بعد".
وفقا لتقرير بصحيفة "واشنطن بوست"، بتاريخ 1 مايو/أيار 2002، لم تثمر تحقيقات وكالة الاستخبارات الأميركية وجهاز المباحث الفيدرالي عن أي تأكيد لصلة عطا بالعراق أو باجتماع في براغ، وأفادت الصحيفة أن "المحللين نظروا في الآلاف من أوراق السفر، واستنتجوا أنه ما من دليل على مغادرة عطا الولايات المتحدة وعودته إليها في التوقيت نفسه الذي وُجِد فيه بمدينة براغ (حسب المزاعم)"، وقد قال "روبرت مولر" مدير المباحث الفيدرالية حينها: "لقد نظرنا في كل قيد مُسجَّل متاح عندنا، من حجوزات الطيران إلى وثائق تأجير السيارات وحسابات البنوك، ولم نجد دليلا على وجود عطا في براغ في التوقيت المزعوم". وهو أمر أكده أيضا "جورج تينيت"، مدير الاستخبارات المركزية أمام الكونغرس، في أكتوبر/تشرين الأول 2002.
نتيجة لذلك توترت العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والبيت الأبيض في تلك الفترة، إذ إن كبار مسؤولي الاستخبارات هالهم إصرار بوش على إيجاد صلة بين صدام والقاعدة، ووفقا للكاتب الأميركي "جيمس رايزن"، فإن المعركة بين البيت الأبيض والاستخبارات المركزية جرت بعيدا عن الأنظار، وتضمنت فصولا مثيرة لم تخرج إلى النور إلا بعد الحرب بسنوات، فقد حاول تشيني الضغط على المحللين المحسوبين على الاستخبارات لتغيير موقفهم، كما دأب عدد من المسؤولين بالاستخبارات على تسريب تصريحات دون ذكر أساميهم إلى الصحافة مفادها أن الوكالة لا تعتقد بوجود صلة بين صدام وهجمات سبتمبر، في خضم تلك المعركة أسست إدارة بوش وحدة استخباراتية مناوئة لوكالة الاستخبارات المركزية للبحث عن الأدلة التي "تجاهلتها" الوكالة على حد زعم رجال بوش، ومن ثَم عكف فريق اختاره "دوغلاس فيث"، أحد المتشددين تجاه نظام صدام حسين في الإدارة الأميركية، على إيجاد أدلة مزعومة تربط بين صدام والقاعدة من المعلومات المتاحة لدى وزارة الدفاع الأميركية.
لم تهدأ التوترات بين الطرفين إلا حين أدرك البيت الأبيض نفسه أنه لا يمكن تسويغ غزو العراق بادعاء علاقة يصعب إثباتها بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، ومن ثَم لجأ إلى ادعاء جديد، وهو امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، ويقول رايزن إن الاستخبارات سرعان ما تحمست لهذا التحول رغم ضعفه بسبب وجود تاريخ فعلي لصدام حسين ونظامه في السعي لامتلاك سلاح نووي، على الرغم من أن البرنامج النووي العراقي انتهى فعليا عام 1991، وهنا تحول البيت الأبيض والاستخبارات إلى شريكين في تجاهل كل الأدلة التي برَّأت العراق من تهمة امتلاك أسلحة دمار شامل أو السعي لذلك، ومضت ماكينة صُنْع الحقائق المُضلِّلة تُحدِث أثرها حتى دخلت الدبابات الأميركية بغداد بالفعل.
الحقائق في متاهات واشنطن
تبدو واحدة من المفارقات هي أن ميلروي، التي كتبت كتابا تدين فيه نظام صدام وحروبه مع الولايات المتحدة، كانت واحدة من المتحمسين للنظام العراقي في الثمانينيات في خضم حربه مع إيران، حين كان العداء على أشُده بين واشنطن وطهران في أعقاب الثورة الإيرانية، فقد كتبت في صيف عام 1988 مقالا بعنوان "البديل بغداد"، أكدت فيه أنه يتوجب على واشنطن أن تتبنى دعم صدام، وأن تلاقي المصالح الأميركية والعراقية واضح للعيان في مواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد اعتبرت ميلروي أن نظام صدام "علماني وعقلاني"، وأن "اعتناقه للقومية العربية يفتر يوما بعد يوم"، وأنه عاكف على إصلاحات شبيهة بإصلاحات غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، ومن ثَم بالإمكان أن يكون هو "أنور السادات" لتسعينيات القرن العشرين، لم تكتفِ ميلروي بالكتابة دفاعا عن صدام حينها، بل حظيت أيضا بعلاقة وطيدة مع "نزار حمدون"، السفير العراقي بواشنطن في ذلك الوقت، كما أشيع عنها أنها حاولت فتح قناة غير مباشرة للتواصل بين العراقيين والإسرائيليين.
بيد أن مواقف الكاتبة الأميركية سرعان ما انقلبت إبان غزو الكويت، ومع صعود جورج بوش الابن باتت الكاتبة ضيفا دائما على البرامج الإعلامية بعد هجمات سبتمبر لمهاجمة صدام ونظامه، على الأرجح بعد أن فشلت مساعيها في تحويله إلى "سادات" جديد، كما توقعت، وفي شهادتها أمام الكونغرس بتاريخ 9 يوليو/تموز 2003، قالت الكاتبة إن إحدى الدلائل على وجود صلة بين العراق وهجمات سبتمبر هو أن عددا من منفذي الهجمات الذين وُلِدوا ونشأوا في دولة الكويت تعود وثائق الهوية الشخصية خاصتهم إلى فترة ما قبل تحرير الكويت مباشرة، في إشارة ضمنية إلى أن النظام العراقي على صلة بهم منذ احتلاله للكويت عام 1990، وأسهبت ميلروي في الحديث عن أنشطة الاستخبارات العراقية في صفوف أقلية البلوش السُّنية (الموجودة على جانبَي الحدود الجنوبية لإيران وباكستان)، وأنها استخدمتهم في جهودها لاستهداف النظام الإيراني، وبما أن عددا من منفذي الهجمات باكستانيون بلوش، فإن تلك صلة إضافية تشي بصلة العراق بهجمات سبتمبر، على حد استنتاجها الذي لم يستند إلى دلائل مادية بطبيعة الحال.
لم تكشف حرب العراق فقط عن قصور الفهم في الكثير من أروقة السلطة الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط، بل كشفت الستار أيضا عن قطاع لا بأس به من الصحفيين الباحثين عن صفة شبه رسمية، الذين يتحركون بأريحية بين أروقة الصحافة والمراكز البحثية والمؤسسات الأميركية، بل أحيانا ما يصلون إلى صفات رسمية كاملة بالفعل، دونما تمحيص من جهات صناعة القرار في تاريخهم، واتساق مواقفهم ورصانة آرائهم، ناهيك عن دوافعهم الشخصية والسياسية، فقد نجحت ميلروي في الحصول على تعيين رسمي بمجلس القوة الخاصة بالإرهاب والردع، التابع لوزارة الدفاع الأميركية، في أعقاب هجمات سبتمبر بوصفها خبيرة في مكافحة الإرهاب، كما يُفترَض، ثم انطلقت بعدها للعمل على الأرض في العراق وأفغانستان لصالح الجيش الأميركي بوصفها "مستشارا ثقافيا"، وهو أمر يبدو مثيرا للسخرية الآن بالنظر لقصور رؤاها الواضح، والاعتباطية الشديدة التي رسمت بها خطّا مستقيما بين صدام والقاعدة وفترة غزو الكويت والهوية البلوشية لبعض منفذي هجمات سبتمبر.
تشابه أسماء وذاكرة ضعيفة
بعد أن اهتز العالم بهجمات سبتمبر 2001، وبدأت الأجهزة التشيكية والألمانية تُنقِّب في أوراقها والمعلومات لديها عن "محمد عطا"، اتضح أن الرجل حاول الدخول إلى براغ سابقا في مايو/أيار 2000، وأن السلطات التشيكية رفضت دخوله بسبب عدم وجود التأشيرة الضرورية للدخول في جواز سفره، وبما أن جميع السلطات عرفت من البيانات الموثقة أن محمد عطا نجح في دخول براغ لأول مرة بالفعل لمدة بضع ساعات في الشهر التالي مباشرة سرعان ما ذهبت نظريات وكالات الاستخبارات الغربية إلى أن براغ لا يمكن أن تكون محض محطة في طريق عطا إلى الولايات المتحدة، وأن إصراره على دخولها حتى نجح في ذلك في الأخير لا بد أن يكشف عن خيط مرتبط بهجمات سبتمبر.
في الوقت نفسه أبلغ أحد عملاء الاستخبارات التشيكية مسؤوليه بأن محمد عطا، الذي انتشرت صوره في شتى أنحاء العالم حينها، هو نفسه الرجل الذي رآه بصحبة العاني (ضابط الاستخبارات العراقي) في أبريل/نيسان 2001، وهو تقدير اعتمد فيه على ذاكرته التي اتضح فيما بعد أنها خانته وأنه أخطأ التقدير، ولكن سرعان ما اندمج خطأ عميل الاستخبارات التشيكية الذي أكد رؤية عطا بصحبة العاني مع لغز إصرار عطا على السفر إلى الولايات المتحدة عبر براغ كي يشكل الخيط الأقوى في حملة إدارة بوش الإعلامية لربط نظام صدام حسين بتنظيم القاعدة، حتى شتاء عام 2001.
حينما أدركت السلطات التشيكية خطأها في الظن بوقوع اجتماع بين عطا والعاني بدأت تتراجع ببطء كي تتجنب الإحراج، فقد قال "ميلوش زِمان"، رئيس الوزراء التشيكي حينها، إن "عطا اتصل بأحد العملاء العراقيين، ليس للتخطيط من أجل الهجوم (على الولايات المتحدة)، بل لتنفيذ هجوم إرهابي على مبنى إذاعة راديو الحرية"، وفي ديسمبر/كانون الأول خرج الرئيس التشيكي "فاتسلاف هافل"، وقال علنا إن احتمالية وقوع لقاء عطا والعاني 70% فقط، وهو تصريح غريب بالطبع ويشي بتلاعب بالرأي العام، إذ إن الأرقام هنا لا محل لها من الإعراب في واقعة إما حدثت أو لم تحدث، لا سيما ونحن نعلم اليوم أن الرجل أبلغ إدارة بوش قبل شهرين من تصريحه ذلك بالحقيقة التي لا لبس فيها.
بقي إذن لغز إصرار عطا على دخول براغ كي يسافر منها إلى الولايات المتحدة، وهو لغز أتى حله بعد عام على غزو العراق، في مارس/آذار 2004، فقد كشف تحقيق للشرطة الفيدرالية الألمانية حينذاك أن محمد عطا، الذي حاول دخول براغ ولم يفلح في مايو 2000، لم يكن محمد عطا المصري الذي نفذ هجمات سبتمبر، بل رجل أعمال باكستانيا له الاسم نفسه، ومن ثَم فإن محمد عطا المصري لم يكن مُصِرّا على دخول براغ بتاتا، بل دخلها بالحافلة مرة واحدة بتأشيرة سليمة من أجل رحلة رخيصة إلى نيويورك، ثم أمضى في أميركا عاما ونيف حتى نفَّذ هجماته الشهيرة رفقة رفاقه من تنظيم القاعدة.
في يوم 5 فبراير/شباط 2003 جلس وزير الخارجية الأميركية كولن باول يُعِد خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة بخصوص العراق والدلائل على امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وذلك حين تحول التركيز على الأسلحة لديه بدلا من صلته بالقاعدة، وقد حاول بعض المسؤولين من إدارة بوش أن يُدرِجوا في الخطاب تلميحات للصلة بين صدام والقاعدة، ولاجتماع براغ المزعوم بين محمد عطا ومسؤول عراقي، منهم نائب مستشار الأمن القومي "ستيف هادلي"، الذي حاول دفع باول في اللحظات الأخيرة كي يشير ولو من بعيد إلى موضوع براغ، فنظر إليه باول بحزم وغضب قائلا: "لقد أخرجنا ذلك الجزء (من الخطاب) يا ستيف.. وسيبقى خارج الخطاب".