هناك ثمة خلل بنيوي في ولاء السياسيين الممثلين للمكونات اللبنانية الذي عادة ما يكون لصالح سياسات قوى إقليمية ودولية، أو لصالح الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية اللبنانية الجامعة الغائبة إلى حد ما.
ويقوم النظام السياسي اللبناني على أساس اقتسام السلطات والمناصب السيادية على أساس الانتماءات الدينية والطائفية.
وكرّس اتفاق الطائف 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975 إلى 1990) معادلة اقتسام السلطة على أساس المحاصصات المكوناتية التي توزع المناصب الرئيسية بين المكونات الأساسية الثلاثة، المسيحيين والسنة والشيعة.
وتتوزع الرئاسات الثلاث بواقع، الجمهورية للمسيحيين ورئاسة الحكومة للسنة ورئاسة البرلمان من حصة الشيعة، بينما يتنافس هؤلاء مع باقي المكونات على المناصب الرئيسية في الإدارات الحكومية مثل الوزارات وغيرها.
ويعاني عموم اللبنانيين من مشاكل يومية وأزمات متراكمة خلفها واقع بنية النظام السياسي الذي شكّل بيئة مؤاتية للفساد والمحسوبية وبالتالي الدخول في أزمات اقتصادية.
تلك الأزمات لا يمكن حلها في بلد يفتقر أصلا إلى الموارد دون تدخل المجتمع الدولي الذي ترفض القوى الفاعلة فيه تقديم أي مساعدات طالما ظل نفوذ حزب الله قائما في مؤسسات الدولة والشراكة في الحكم.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، خرج المحتجون إلى شوارع العاصمة اللبنانية احتجاجا على رفع الضرائب على الاتصالات والتبغ ومواد أخرى.
وتطورت الاحتجاجات للمطالبة بإصلاحات جذرية للنظام السياسي القائم وإعادة تأهيل البنية التحتية للقطاعات الخدمية والحد من تراجع خدمات الكهرباء والماء وتكدس النفايات في شوارع العاصمة، بالإضافة إلى مكافحة الفساد المالي والمحسوبية وتوفير فرص عمل للعاطلين وإصلاح القطاع المصرفي وغير ذلك.
لكن تفشي فيروس كورونا وفرض الحظر الجزئي أدى لتراجع زخم الاحتجاجات التي عادت ثانية أواخر أبريل/نسان الماضي بعد تفاقم الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق وصعوبة الحصول على أبسط مستلزمات الحياة اليومية مثل الخبز الذي شهدت أفران العاصمة طوابير طويلة من المواطنين تصطف لساعات من أجل الحصول عليه.
وتجددت الاحتجاجات بزخم أكبر ومطالب أوضح بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب التي خلفت نحو 200 قتيلا وأكثر من 6000 مصابا، بينما تقدر الخسائر الأولية بأكثر من 5 مليارات دولار والخسائر الإجمالية بنحو 15 مليار وفق تصريحات مسؤولين لبنانيين.
ويلقي المحتجون مسؤولية الانفجارات أولا على الإهمال من قبل الحكومات اللبنانية خلال فترة وجود مادة نترات الامونيوم في مخازن مرفأ بيروت، والمطالبة بمحاكمة جميع المسؤولين عن ذلك والمطالبة بتحقيق دولي للكشف عن تفاصيل الحادث والمسؤولين عنهم ومحاكمتهم.
كما يُحمّل المحتجون حزب الله اللبناني الجزء الأكبر من المسؤولية على خلفية سيطرته على أنشطة المرفأ، واحتمالات استخدامه لاستقبال الأسلحة والذخيرة وتخزينها في مخازن تابعة لشركة المرفأ.
وهناك إجماع محلي ودولي على أن حزب الله يسيطر على أنشطة مرفأ بيروت بشكل "غير رسمي".
وينفي حزب الله على لسان أمينه العام حسن نصر الله، الاتهامات الموجهة للحزب من قبل المحتجين وقوى سياسية محلية ودول عربية وأجنبية أن يكون الحزب يسيطر على المرفأ أو يخزن فيه أسلحة وذخائر أو أنه يستخدمه لأي غرض.
وأظهرت الاحتجاجات الراهنة حجم الغضب الشعبي بعد انفجارات بيروت مع اتهامات واضحة لحزب الله من خلال هتافاتهم والشعارات المرفوعة والدمى المعلقة على المشانق الرمزية.
وكانت أبرز تلك الدمي، للأمين العام للحزب حسن نصر الله وإلى جانبه رئيس الجمهورية ميشيل عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري وهما من أبرز الداعمين لتغلغل حزب الله في مؤسسات الدولة وترتيب أوضاع الحكومة بما ينسجم مع رغبات الحزب.
ذلك الحزب الذي جاء بحسان دياب رئيسا للحكومة بتكليف من رئيس الجمهورية في 19 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي بعد فشل اكثر من مرشح منذ استقالة سعد الحريري في 29 أكتوبر/تشرين الأول استجابة لضغوط الشارع.
واستقبلت حشود من المحتجين الغاضبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في موقع الانفجار رافعين شعارات تنادي بإسقاط النظام السياسي، ومطالبين إياه بتحريرهم من هيمنة ونفوذ حزب الله.
وقد لا يثق المحتجون بوجود رغبة فرنسية لتنفيذ مطالبهم بالتخلص من هيمنة ونفوذ حزب الله، أو حتى قدرة الرئيس الفرنسي على فرض التغيير السياسي بمن فيهم الذين طالبوا بعودة الانتداب الفرنسي، خاصة بعد أن التقى مع الفاعليات السياسية بحضور ممثل عن حزب الله.
لا تجد الدعوات الفرنسية لتغيير سياسي يقوم على أساس تشكيل حكومة وحدة وطنية قبولا من المحتجين الذين يستذكرون مثل هذه الحكومة بعد سيطرة حزب الله على العاصمة يوم 7 مايو/أيار 2008 اثر قرار الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة بنقل رئيس جهاز أمن المطار وفيق شقير، إلى ملاك الجيش وحل شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله وملاحقة المسؤولين عنها.
أدت حكومة الوحدة الوطنية إلى فرض الأمر الواقع بقوة السلاح لصالح حزب الله والقوى المتحالفة معه وسيطرته على معظم مؤسسات الدولة اللبنانية الأمنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية بما فيها الجيش.
واصطف الجيش إلى جانب الحكومة في الاحتجاجات الحالية خلافا لموقفه من احتجاجات عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري أو ما يعرف باسم "ثورة الأرز" التي أطاحت وقتها بنفوذ حزب الله وحركة أمل بعد إرغام القوات السورية على الانسحاب من لبنان.
من المؤكد أن تصاعد حدة الاحتجاجات بعد تفجيرات بيروت وبلوغها ذروتها في 8 أغسطس/آب باقتحامهم عدد من الوزارات ومحاولة اقتحام مجلس النواب والمواجهات مع الشرطة والجيش، تعد السبب الأهم الذي دفع حسان دياب لتقديم استقالة حكومته في العاشر من الشهر نفسه، لاعتقاده بأن منظومة الفساد أكبر من الدولة.
ومن بين مطالب المحتجين بعد تفجيرات بيروت، إجراء انتخابات تشريعية بقانون انتخابي جديد لانتخاب أعضاء جدد لمجلس النواب وانتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للبرلمان.
هذه المطالب مدعومة بشكل ما من تحالف قوى 14 اذار التي تضم تيار المستقبل وأحزاب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية على أمل الحد من هيمنة تحالف قوى 8 آذار التي تضم حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر.
وينطلق المحتجون من قناعات راسخة بان انفجارات بيروت ليست حادثا عرضيا وأن هناك جهات مسؤولة يجب محاسبتها بعد تحقيق دولي ترفض الحكومة اللبنانية وحزب الله القبول به، وهؤلاء لا يثقون بتحقيق لبناني في ظل دولة خاضعة لنفوذ حزب الله المتهم بالمسؤولية عن التفجيرات إلى جانب مسؤولين في الحكومة التي تخضع لسيطرة تحالف سياسي يقوده الحزب أيضا.
قد يكون استمرار ضغط المجتمع الدولي على الحكومة اللبنانية بحجب المساعدات عنها يتعارض إلى حد ما مع تطلعات المحتجين في تحسين اقتصاد البلد وانعكاساته المباشرة على أوضاعهم المعيشية.
لكن هؤلاء المحتجون يدركون أن إحجام المجتمع الدولي عن تقديم المساعدات يعود لرفض الدول الرافضة لنفوذ إيران المباشر أو غير المباشر عبر حزب الله الذي ينظر إلى الدولة اللبنانية على أنها مرتهنة لهذا الحزب المصنّف على قوائم الإرهاب وان هذه المساعدات ستكون تحت تصرفه.
وترفض دول الخليج العربية والمانحون الدوليون وصندوق النقد الدولي مساعدة لبنان قبل تنفيذ إصلاحات تفضي إلى تحرر مؤسسات الدولة من نفوذ حزب الله والذي ينظر إليه بأنه نفوذ إيراني مباشر.
لذلك قد يجد المحتجون أنفسهم أمام الأمر الواقع بقبول معادلة المجتمع الدولي، مقايضة إضعاف إيران ونفوذ حزب الله الحليف لها بحزم مساعدات تعيد للاقتصاد اللبناني حيويته وتعمل على انتشال لبنان والشعب اللبناني من أزماته الراهنة.