"لم أعد أملك أي دور، ففي اليوم الذي هاجم فيه طرابلس، حظي (الجنرال المتقاعد خليفة حفتر) بدعم غالبيتهم (أعضاء مجلس الأمن) في حين كنا نتعرض للانتقاد في ليبيا لأننا لم نوقفه".
بهذه الكلمات كشف غسان سلامة، المبعوث الأممي المستقيل إلى ليبيا، نفاق بعض الدول التي تدعو الآن لوقف إطلاق النار، لكنها وقفت ضد صدور قرار أممي يدين هجوم مليشيات حفتر على العاصمة الليبية في 4 أبريل/نيسان 2019.
وقبل أيام من هذا التاريخ، كانت الأمم المتحدة قاب قوسين أو أدنى من جمع الليبيين بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم وقبائلهم ونشطائهم في مؤتمر جامع بمدينة غدامس الليبية (جنوب غرب)، كان من شأنه أن يضع خارطة طريق نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي المرحلة الانتقالية وتوقف الحرب الأهلية.
ألقت الأمم المتحدة حينها بكامل ثقلها في هذا المؤتمر الذي حضّرت له طيلة أشهر، وسبقته لقاءات وجلسات وحتى اجتماعات على مستوى محلي لاختيار ممثلين عن كل فئة لحضور هذا المؤتمر "المخلص".
وفي اليوم الذي نزل فيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى طرابلس، لمنح ثقل أممي أكبر للمؤتمر الجامع، الذي كان يعتقد حينها أنه يحظى بدعم دولي، فإذ بحفتر يستغل هذه الزيارة للقيام بهجوم غادر على العاصمة، التي كانت تجهز نفسها لدخول أفراح السلام، فإذا بها على أبواب حرب لم تختر زمانها ولا مكانها.
كانت المفاجأة كبيرة، لكن الآتي أعظم.. توقع أكثر الناس أن تدين أغلبية الدول خاصة الغربية منها هجوم حفتر الغادر، وأن تفرض عليه عقوبات رادعة كما توقعوا أن يخرج مجلس الأمن ببيان إدانة.. لكن المؤامرة كانت أكبر.
فبعد أن تقدمت بريطانيا بمقترح قرار لمجلس الأمن لإدانة هجوم حفتر ووقف إطلاق النار، وتهريب النفط، تحفظت روسيا على نص القرار وكذلك فرنسا، بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية، وغالبية أعضاء المجلس، الذين فشلوا أربع مرات في الخروج ببيان مشترك يدينون فيه بشكل واضح حفتر وميليشياته المعتدية.
كانت مفارقة كبيرة أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا ومعهما فرنسا على دعم عدوان زعيم مليشيا على حكومة معترف بها دوليا، قبيل مؤتمر أممي للسلام.
وتبين أن حفتر ليس الوحيد الذي غدر بمؤتمر السلام في غدامس، بل دول كثيرة وعلى رأسها فرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائهم الإمارات ومصر والسعودية والأردن والبحرين.. تآمرت جميعها على حلم الشعب الليبي في الخروج من نفق الاقتتال الداخلي الذي طال أمده.
"طعنة في الظهر" تلك التي تلقاها سلامة، قبيل مؤتمر غدامس، من دول صرح مسؤولوها علنا عن دعمهم لجهوده في تحقيق السلام بليبيا، لكنهم في اجتماعاتهم المغلقة تآمروا لإفشال المؤتمر، وعبدوا الطريق لدخول حفتر إلى طرابلس "سريعا"، وبأقل قدر من الإحراج لهم أمام شعوبهم.
سلامة، وفي في مقابلة مع "مركز الحوار الإنساني"، الأربعاء الماضي، كشف لأول مرة، أن "دولا مهمة لم تكتف فقط بدعم حفتر، بل تواطأت عمدا ضد عقد المؤتمر الوطني"، قائلا "لم يكونوا يريدون أن يُعقد.. وأدى (هجوم حفتر) إلى توقف عملية السلام، التي عملنا عليها لمدة عام كامل".
لكن الدبلوماسي اللبناني، الذي عُين على رأس البعثة الأممية إلى ليبيا، في يونيو/حزيران 2017، رمى المنشفة بعد أقل من عام على إفشال دول كبرى لعقد مؤتمر غدامس، متحججا بأسباب مرضية، لكنه أوضح بعد أربعة أشهر أن "نفاق تلك الدول، في هذه (تلك) المرحلة، وصل إلى مراحل تجعل من عملكم إشكاليا جدا".
ويبدو أن سلامة، كان فعلا "غاضبا جدا" عندما وصف "قادة دول مهمة" بأنهم "لم يعد لديهم أي ضمير".
فما حصل خلال الـ14 شهرا الماضية كان تلاعبا بمصير شعب كامل من أجل مصالح خاصة بقادة دول، ولو على حساب دماء الكثير من الليبيين، الذين كان بالإمكان إنقاذ أرواحهم.
فالهجوم على طرابلس فشل، وعاد حفتر إلى مواقعه خالي الوفاض، مخلفا وراءه آلاف القتلى والجرحى والمفقودين.. وآلاف الألغام، وعدد مجهول من المقابر الجماعية.
لكن سلامة، الذي استقال في 2 مارس/ آذار 2020، لربما تسرع قليلا، ولم ينتظر ليرى كيف انقلب المشهد الليبي وتغيرت مواقف العديد من الدول الداعمة لحفتر.
فبعد 23 يوما من استقالة المبعوث الأممي، أطلق الجيش الليبي التابع للحكومة الشرعية، "عملية عاصفة السلام"، ومن يومها ومليشيات حفتر تتقلب في بركة وحل من الهزائم، إلى أن تم طردها من طرابلس ومن كامل المنطقة الغربية باستثناء مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس).
فالضوء الأخضر الأمريكي الذي منحه جون بولتون مستشار المن القومي الأمريكي، تحول إلى ضوء أحمر، وفرنسا تبرأت من حفتر، وحلف شمال الأطلسي "الناتو" يعلن دعمه للحكومة الليبية الشرعية، وكذلك القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، وإيطاليا تعزز علاقاتها من طرابلس، ناهيك عن الدور التركي الفاعل في دعم الحكومة الشرعية.
لم يعد حفتر ذلك المتبجح، الذي رفض في أبريل/نيسان 2019، دعوة غوتيريش لوقف إطلاق النار، بل أصبح يستجدي مكالمة من الأخير، والذي أصرّ المتحدث باسم الأمين العام على أن هذه المكالمة لا تَمنح الجنرال الانقلابي "أي وضع قانوني".
أي أن الأمم المتحدة لا تعترف بحفتر كقائد للجيش الليبي، أي أنه شخص خارج الشرعية الليبية، وغير معترف به دوليا.
وبهذا يكون غوتيريش، قد رد على "الإهانة" التي تلقاها من حفتر، بعدما التقاه وجها لوجه في شرق ليبيا في 2019، حيث استغل الجنرال الانقلابي الزيارة لجعلها غطاء لهجومه الغادر.
تصريحات سلامة الأخيرة، تكشف "تناقض" بعض القادة الذين يتشدقون اليوم بدعوات السلام في الوقت الذي فعلوا بالأمس المستحيل لمنع صدور ولو بيان لإيقاف الحرب، لذلك من الصعب تصديق نوياهم.
فطيلة 14 شهرا، والشعب الليبي يُذبح على أيدي مليشيات إرهابية، ولم يحرك ذلك شيئا في ضمائر قادة هذه الدول ولو ببيانات إدانة تسمي المجرم حفتر باسمه، وتضعه على قائمة العقوبات، حتى لا نصل إلى اليوم الذي تُصدم فيه البشرية بمقابر جماعية، وأحياء ملغمة، ومجازر مروعة يتحمل وزرها حتى أولئك الصامتون عن هذه الجرائم.