لماذا تراجعت إثيوبيا عن توقيع اتفاق سد النهضة في الولايات المتحدة خلال اللحظات الأخيرة؟ وهل هناك خلاف حقيقي بين أديس أبابا وواشنطن بهذا الشأن؟ وهل يمكن أن تمضي إثيوبيا قدما في ملء السد رغم الاعتراضات المصرية؟
وهل يمثل اجتماع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بكبار قادة القوات المسلحة مؤخرا، رسالة تهديد مصرية بأن استخدام القوة مطروح لحماية أمن مصر القومي؟ وهل تستطيع القاهرة بالفعل اللجوء إلى الخيار العسكري في ظل وضعها الداخلي والوضع الإقليمي بشكل عام؟
وإذا كان الخيار العسكري غير ممكن حاليا، فأي خيار يمكن أن تلجأ إليه مصر سياسيا ودبلوماسيا؟ وهل تؤتي هذه المسالك أكلها في ظل تصعيد إثيوبيا من لهجتها وتأكيدها البدء في ملء خزان السد خلال أشهر، وأنه لا توجد قوة يمكنها منع إتمام بناء السد وملئه بالمياه التي تقول إثيوبيا إنها أمور تدخل في صميم سيادتها على أرضها ومياهها.
فسرت إثيوبيا غيابها عن اجتماع واشنطن قبل أيام والذي كان يفترض أن يتم خلاله التوقيع على اتفاق بشأن ملء سد النهضة وتشغيله مع كل من مصر والسودان برعاية البنك الدولي والولايات المتحدة، وقالت في بيان رسمي إن "فريق التفاوض الإثيوبي لن يشارك في الاجتماع، لأنه لم يكمل بعدُ التشاور مع أصحاب المصلحة داخل البلاد".
وقالت الخارجية الإثيوبية إن مسودة الاتفاق الذي وقعته مصر بالأحرف الأولى في واشنطن، ليس محصلة المفاوضات ولا المناقشات الفنية والسياسية للدول الثلاث.
وأعلنت في وقت لاحق عدم مشاركتها في أي مفاوضات حول سد النهضة "من شأنها أن تضر بالمصالح الوطنية للبلاد"، مشيرة إلى أنها ستبدأ ملء بحيرة السد على النيل الأزرق مع استكمال عمليات البناء، ومشددة على أنه لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها إيقاف هذا المشروع.
ويلاحظ أن بيان الخارجية الإثيوبية أعرب عن "خيبة أمل" من بيان وزارة الخزانة الأميركية الذي عارض بدء ملء السد دون إبرام اتفاق بين الدول الثلاث. وبدا واضحا أن أديس أبابا لم تكن تتوقع جدية من الوسيط الأميركي الذي دفع إلى إخراج اتفاق بشأن الأزمة، ولذلك سعت في منتصف المفاوضات التي استمرت نحو خمس جولات للجوء إلى جنوب أفريقيا كوسيط بديل.
كما ظهر ذلك في تصريحات لوزير الخارجية الإثيوبية غيدو أندرغاشيو تساءل فيها عن دور الولايات المتحدة والبنك الدولي في عملية التفاوض، معتبرا أن دورهما لا بد أن ينحصر في الرقابة فقط.
لكن السفير عبد الله الأشعل المساعد الأسبق لوزير الخارجية المصري يرى في مسار الأزمة منذ بدايتها مؤامرة إثيوبية إسرائيلية أميركية، هدفها حرمان مصر من حصتها في مياه النيل، بحسب تصريحات سابقة للجزيرة نت، وهو ما يردده نشطاء على مواقع التواصل، مؤكدين أن ما يبدو خلافا إثيوبيا أميركيا ما هو إلا "تمثيلية" هدفها كسب الوقت وإطالة أمد المفاوضات حتى اكتمال بناء السد وملئه، لتبقى مصر أمام الأمر الواقع.
واستغرب الأشعل -في مقال نشره مؤخرا- إشراف واشنطن على المفاوضات من خلال وزير الخزانة الذي لا علاقة له بالجوانب الفنية من المفاوضات، ورأى أن واشنطن تدعي أنها تضغط على إثيوبيا حتى تخدع مصر وتظل تنتظر الرحمة من الولايات المتحدة حتى تتفاجأ بملء السد.
تهديد إثيوبي
الملاحظ أن التصعيد الإثيوبي الأخير انطوى على تهديد صريح ببدء ملء السد خلال أشهر، حيث قال وزير المياه والطاقة سيليشي بقلي إن السد أصبح في مراحله الأخيرة، وإن ملأه سيبدأ في يوليو/تموز المقبل، على أن يبدأ توليد الطاقة في فبراير/شباط 2021، فهل يعني هذا أنها ستمضي قدما في تصعيدها متجاهلة الاعتراضات المصرية والتأييد الأميركي للموقف المصري في هذا الشأن؟
لا تعارض مصر ملء خزانات السد، ولكنها تعارض إتمامها دفعة واحدة، لأنه سيؤدي بالضرورة إلى تخفيض حصتها من المياه بشكل حاد ولعدة سنوات، مما يمس مباشرة بملايين المصريين الذين يعتمدون على مياه النيل كمصدر رئيسي للشرب والري.
وينص الاتفاق المبرم في مارس/آذار 2015 بين زعماء مصر وإثيوبيا والسودان في مادته الخامسة، على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله قبل البدء بالملء، بما يمنع أي أضرار على دول المصب.
ويعد ملء خزان السد الذي تصل قدرته الاستيعابية إلى 74 مليون متر مكعب من المياه، إحدى أبرز النقاط الخلافية بين البلدين. وتقول مصر إن السد يهدد حصتها من المياه المقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب، والتي تعتمد عليها بأكثر من 90% في الشرب والزراعة.
خيارات مصر
بعد التصعيد الإثيوبي الأخير اجتمع الرئيس السيسي مع كبار قيادات القوات المسلحة، وأكد "ضرورة الاستمرار في التحلي بأعلى درجات الحيطة والحذر والاستعداد القتالي، وصولا إلى أعلى درجات الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل إليهم لحماية أمن مصر القومي، وذلك في ظل التحديات الراهنة التي تموج بها المنطقة".
البعض رأى في هذا الاجتماع وما خرج منه من تصريحات بحسب بيان للمتحدث باسم رئاسة الجمهورية، رسالة إلى إثيوبيا -رغم عدم ذكرها في البيان- مفادها أن خيار القوة ربما يكون مطروحا ردا على التعنت الإثيوبي، وهو ما ردده بعض مؤيدي النظام من إعلاميين وصحفيين وساسة عبر صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن يبدو أن اللجوء إلى الخيار العسكري محفوف بالمخاطر، فثمة معطيات وحقائق ستؤثر بشكل كبير على أي قرار مصري يتعلق باستخدام القوة العسكرية، منها ما يتعلق بالجغرافيا والسياسة وما يتعلق بالقدرات العسكرية، وتشابك العلاقات الإقليمية والمشاكل الداخلية لدى كل من مصر وإثيوبيا.
وإذا استبعد الخيار العسكري، فإن القاهرة قد تلجأ إلى استخدام ما تبقى لديها من أوراق ضغط سياسية ودبلوماسية، لعل أبرزها -وفق خبراء ومحللين- قطع المفاوضات مع إثيوبيا والانسحاب من اتفاق المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015، وربما التوجه إلى مجلس الأمن والتحكيم الدولي لحسم النزاع بقرار، واللجوء إلى المنظمات الأفريقية المعنية بمثل هذه الأزمات، مثل مجلس الأمن والسلم الأفريقي والاتحاد الأفريقي.
ويقترح السفير عبد الله الأشعل أن تستعين مصر بطاقم جديد من الوزراء المختصين في هذا الملف برؤية جديدة، فضلا عن البدء الفوري والعاجل بخطة قومية لترشيد استخدام مياه النيل وكل مصادر المياه، والبحث عن مصادر جديدة للمياه الجوفية والاستفادة من مياه الأمطار.