[ صورة من مواقع التواصل للشاب قبل أن ينتحر بالقفز من أعلى برج القاهرة ]
غافل الشاب الطالب بكلية الهندسة صديقه وألقى بنفسه من أعلى برج القاهرة -الذي يبلغ ارتفاعه 187 مترا- مودعا حياته تاركا خلفه رسالة تفيض بالألم، ناصحا كل من يقرأ الرسالة بمراعاة من حولهم والاهتمام بهم قبل فوات الأوان.
الرسالة والفيديو اللذان تم نشرهما على مواقع التواصل الاجتماعي للحظة قفز نادر محمد، الطالب بكلية الهندسة مساء السبت أثارتا حزنا شديدا وتساؤلات كبيرة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت شابا في مقتبل العمر وطالبا في إحدى كليات القمة بمصر إلى الانتحار.
انتحار نادر سبقه بيومين انتحار شاب عشريني بمدينة المحلة الكبرى شنقا بواسطة حبل، كما سبقه بأسبوع انتحار طالب بمدينة قوص جنوب قنا شنقا أيضا، بالإضافة إلى حالات كثيرة من الانتحار تحت عجلات مترو الأنفاق أو بمياه النيل، وترجع معظمها تقارير النيابة للمرور بأزمة نفسية.
وصنف تقرير لمنظمة الصحة العالمية مصر، أكبر دولة عربية شهدت حالات انتحار عام 2016 متقدمة على دول بها صراعات وحروب مسلحة، وقدرت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات عدد المنتحرين في النصف الأول من عام 2018 بـ 150 شابا أغلبهم بين 20 و35 عاما.
فما الذي يدفع شباب مصر والمصريين عموما للانتحار؟ وما الذي يتسبب في مرورهم بالأزمات النفسية المذكورة في تقارير الوفاة؟ وهل للظروف السياسية والاقتصادية علاقة بتلك الأزمات وبالتالي الانتحار؟
تفجير للقدرات
يرجع أستاذ علم النفس أحمد حافظ تعدد حالات انتحار الشباب بشكل خاص إلى انعدام الأمل وضبابية الرؤية للمستقبل فيدخل الشاب في ما يطلق عليه الاكتئاب الانتحاري، وكذلك يكون للانتحار أسباب تتعلق بصدمات عاطفية أو خلافات أسرية.
وقد يكون لدى بعض الشباب -حسب كلام حافظ للجزيرة نت- قدرات ومواهب خاصة لم يستطيعوا التعبير عنها أو الإعلان عنها وسط مجتمعه، سواء الأسري أو الجامعي فيفجر تلك القدرات بتمرده على حياته ذاتها.
لذا نجد أن حالات كثيرة من الانتحار تأخذ شكل الإعلان أو الإشهار مثل القفز تحت عجلات مترو الأنفاق أو من أعلى برج القاهرة، وهو يعي تماما أن قصته ستنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه يحمل المجتمع أو السلطة -أي سلطة- مسؤولية قراره بالتخلص من حياته، على حد قول حافظ.
خواء ديني وثقافي
وبدورها، تعزو أستاذة علم الاجتماع إنشاد عز الدين تزايد حالات الانتحار في السنوات الأخيرة إلى الإحباط الشديد الذي يمكن أن يسيطر على البعض لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية، بالإضافة إلى حالة الخواء الثقافي والديني لدى الكثيرين.
وأشارت عز الدين -في حديثها للجزيرة نت- إلى تراجع رؤية الانتحار من منظور ديني لدى كثير ممن يمارسون الانتحار أو حتى من يتابعون هذه الحالات، حيث أصبحنا نجد تعاطفا شديدا مع المنتحر على مواقع التواصل الاجتماعي وإلقاء كل اللوم على المجتمع والسلطة السياسية، وذلك يسهم بشكل أو بآخر في دعم المنتحر باتخاذ قراره.
وشددت أستاذة علم الاجتماع على ضرورة تحرك الدولة بشكل مؤسسي ومجتمعي حقيقي -بعيدا عن المبادرات النظرية- لدعم الشباب بنزع نظرة اليأس وفقدان أي أمل بالمستقبل، مطالبة الأسر بضرورة التقرب من أي فرد بها تلاحظ عليه بوادر إحباط أو انعزال عن المجتمع.
راغب بالحياة والانتحار
بينما يرى محمد علي مدير إدارة الإعلام بأمانة الصحة النفسية -التي تتبعها المستشفيات الحكومية الخاصة بعلاج الأمراض النفسية والإدمان- أن الشخص المنتحر يكون راغبا في الحياة قدر رغبته في الانتحار ولكنه يحتاج إلى من يعينه في مواجهة الضغوط الحياتية والمجتمعة والنفسية، وبالطبع المعاناة المادية المتمثلة في قلة أو انعدام الدخل.
وأكد علي -في تصريحات صحفية- أن رغبة الانتحار تعد مرضا نفسيا يمكن علاجه خلال جلسة واحدة تقنع الذي يعتزم التخلص من حياته بالعدول النهائي عن فكرته، وربما يحتاج تصحيح مفاهيمه حتى يعود لتفكيره في الحياة بشكل طبيعي عدة جلسات.
وتعليقا على ما أفادت به معظم تقارير محاضر الشرطة من غلبة العامل النفسي ومرور المنتحرين بأزمات نفسية قال المحامي والحقوقي محمود عادلي، إن الأسباب الحقيقية ترجع في كثير من الحالات إلى الأسباب الاقتصادية وضيق العيش.
خجل من الظروف
وأضاف عادلي للجزيرة نت أن كثيرا من الأسر تخجل من ذكر أن الظروف المادية الخانقة هي من دفعت بذويهم للانتحار، وأنه علم ذلك من حالات لمنتحرين ينتمون لعائلات لديها قضايا في مكتبه بمحافظة الدقهلية، مشيرا إلى أن إرادة الأسر تتوافق مع إرادة النظام السياسي في الإعلان عن ذلك.
من جانبه، رأى مؤسس جبهة الضمير المحامي الحقوقي عمرو عبد الهادي أن النظام الحاكم يتحمل المسؤولية الكبرى عن ارتفاع معدلات الانتحار في مصر.
وقال عبد الهادي في تصريحات سابقة للجزيرة نت، إن السياسات الاقتصادية للدولة زادت من الأعباء اليومية للمواطنين وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما أدى لانتشار الجريمة وتنامي ظاهرة الانتحار.
تساؤل للحكومة
وتقدم النائب البرلماني طلعت خليل عقب انتشار فيديو الطالب المنتحر من أعلى برج القاهرة بتساؤل لرئيس الوزراء المصري حول خطة الحكومة للحد من تلك الظاهرة المخيفة من كل نواحيها الاقتصادية الاجتماعية والنفسية.
ونشرت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان تقريرا كشفت فيه عن رصد 101 حالة انتحار بمصر خلال أشهر مارس وأبريل ومايو هذا العام، وأوضحت أن النسبة الأعلى كانت بمحافظة البحيرة تليها القاهرة ثم الدقهلية.
ورصد التقرير تقدم فئة الطلاب والعمال شرائح المقدمين على الانتحار ثم شريحة ربات البيوت، وتراوحت الأعمار بين 21 و30 عاما، وتقدم الذكور بـ 67 حالة مقابل 34 للإناث، مرجعا تزايد حالات الانتحار إلى تردي الوضع الاقتصادي المصري، مما يؤدي إلى أزمات نفسية تصيب البعض وتدفعهم إلى الانتحار.
وقدرت إحصائيات منظمة الصحة العالمية في تقرير لها نشرته على موقعها عام 2014 أن العالم يشهد حالة انتحار كل أربعين ثانية بإجمالي ثمانمئة ألف شخص سنويا، أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي، وأن عدد المصريين المنتحرين وصل إلى 88 حالة انتحار بين كل مئة ألف مصري.