[ احتجاجات بالسودان ]
كقطعة خبز تنضج من أطرافها، اشتعلت الاحتجاجات في ولايات السودان الشاسعة، ورغم أن الخبز قد كان الشرارة التي فجرت المظاهرات، فإنه لا يعدو أن يكون القمة الصغيرة لجبل من جليد الأزمات.
بدأت المظاهرات بشكلها الصاخب الأربعاء الماضي من عطبرة بطلاب المدرسة الصناعية الذين احتجوا داخل مدرستهم على انعدام الخبز لوجبة الإفطار، فخرجوا يتلمسون طريقهم للتظاهر خارج أسوار المدرسة.
زحف الطلاب نحو سوق المدينة من دون أن تتصدى لهم الشرطة، على غير العادة، وعندها استجمع المواطنون شتات شجاعتهم منضمين للاحتجاجات التي اتسعت بخروج المدارس.
دون قيادة
وبالرغم من أن مدنا -مثل الدمازين في ولاية النيل الأزرق والفاشر في ولاية شمال دارفور- شهدت احتجاجات كان وقودها الطلاب، فإن المظاهرات التي اندلعت أيام الأربعاء والخميس والجمعة في أنحاء عدة بالسودان كان أكثر ما يميزها أنها جامحة ودون قيادة.
امتدت رقعة الاحتجاجات العنيفة لتشمل ثماني ولايات: البحر الأحمر، ونهر النيل، والشمالية، والقضارف، وسنار، والخرطوم، والنيل الأبيض، وشمال كردفان.
والشاهد أن الاحتجاجات العنيفة كانت في مناطق اتسمت بالاستقرار الأمني والسياسي، مقارنة بمناطق النزاعات في إقليم دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
أزمات متلاحقة
ظهور ما يسمى "الخبز التجاري" كان على يبدو الشرارة التي أشعلت فتيل الاحتجاجات التي لم تخبُ حتى الآن، لكن من المؤكد أن العام الحالي عانى فيه السودانيون منذ إطلالته من متوالية أزمات لم يختبروها طوال تاريخهم المتخم بالأزمات، فضلا عن واقع سياسي يسعى فيه الرئيس عمر البشير -الجالس في السلطة منذ 1989- للترشح مجددا بتعديل الدستور.
وعلى إثر إجازة موازنة عام 2018 ومنذ أن أهلّ يناير/كانون الثاني، قفزت أسعار السلع بشكل جنوني وظل معدل التضخم في تصاعد قياسي إلى أن اقترب من حاجز 70% مسجلا في نوفمبر/تشرين الثاني 68.93%.
وظلت العملة الوطنية تمارس انسحابا مريعا ومتصلا أمام الدولار، ليصل سعر صرف الدولار خلال ديسمبر/كانون الأول الحالي إلى نحو 75 جنيها، قبل أن يستقر لاحقا عند 62 جنيها.
ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث، يعاني السودانيون من صعوبة في الحصول على مدخراتهم من المصارف، إذ أصبحت طوابير العملاء أمام البنوك وأجهزة الصرف -التي غالبا ما تكون خاوية- هي السمة الأبرز في المشهد.
وبعد أن كان الدولار سلعة تُكتَنز وتروَّج في السوق السوداء، تحول الجنيه -على قلة حيلته- إلى سلعة أيضا، لتنتعش "تجارة الكاش"، وأضحى للجنيه سعران: سعر مرتفع للشيكات وآخر منخفض للنقد.
مدّ وجزر
وأصبح اصطفاف السيارات أمام محطات الخدمة كالمد والجزر، وما تكاد تحل أزمة البنزين والوقود حتى تعود من جديد أكثر ضراوة، وهو ما حفز سوقه السوداء وهدد الزراعة التي تعتمد على الري بالمضخات.
وجراء شح الوقود تزايدت أزمة المواصلات العامة في الخرطوم بشكل لافت، اضطرت معه وزارة الداخلية وجهاز الأمن لإنزال أساطيل سياراتها لتفريغ مواقف المواصلات الرئيسة من المواطنين، خشية استغلال تجمعاتهم في الاحتجاجات.
وشكل الخبز التحدي الأكبر للحكومة، من واقع أن العديد من المسؤولين جأروا بالشكوى من ضخامة الدعم الحكومي المخصص للدقيق وصعوبة محاصرة تسرب وتهريب السلعة، حيث يستورد السودان قمحا بقيمة سبعمئة مليون دولار سنويا.
تجاوزات بالمخابز
وناشد رئيس مجلس الوزراء وزير المالية معتز موسى -الجمعة قبل الماضي- المواطنين مراقبة المخابز بأنفسهم، لأن تكلفة المراقبة الحكومية تتطلب المزيد من الصرف في ظل أزمة الوقود.
وتدخلت عناصر جهاز الأمن أكثر من مرة في رقابة المخابز، مما أسهم في انفراج وقتي لأزمة طوابير الخبز، وهو ما يشير بقوة إلى التدهور الذي حاق بالمنظومة الإدارية والرقابية للدولة.
وحتى مساء أمس الجمعة، عزا مدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق صلاح قوش الاحتجاجات على أزمة الخبز في بورتسودان وعطبرة، لتأخر حصص الولايتين بسبب وقوف الشاحنات في طوابير الوقود.
ورغم إقرار قوش بالتركيز على الخرطوم ونسيان الولايات في معالجة أزمة الخبز، فإن السلطات يبدو أنها كانت تضغط على الولايات في حصصها لصالح ولاية الخرطوم، لكنها أتيت من الأطراف.
أهداف مشروعة
استهداف دور حزب المؤتمر الوطني -صاحب الأغلبية الحاكمة- ومقار المحليات كان هو العامل المشترك في الاحتجاجات، وكأنما ثمة استهداف لرمزية السلطة في الحزب ورمزية الجباية في المحليات.
وعلى وقع تصاعد الاحتجاجات، اضطرت الحكومة لتعليق الدراسة في الجامعات والمدارس بولاية الخرطوم وولايات أخرى، وفرض إجراءات استثنائية بحظر التجوال وسريان حالة الطوارئ، كما عمدت إلى حجب مواقع التواصل الاجتماعي بعد ساعات من إصدار الرئيس عمر البشير قرارا بإعفاء مدير عام هيئة الاتصالات واستبداله بجنرال متقاعد.
مقارنات حاضرة
ومقارنة باحتجاجات سبتمبر/أيلول 2013، فإن استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين يبدو أقل في الاحتجاجات الحالية، فقد أقرت الحكومة بسقوط ثمانية قتلى في ولايتي القضارف ونهر النيل، في حين تتحدث تقارير عن مقتل 12 شخصا، فضلا عن أربعة قتلى آخرين في النيل الأبيض وعطبرة.
وفي احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013 سقط 85 قتيلا بحسب إحصاءات الحكومة، بينما تفيد منظمات دولية بسقوط نحو 200 قتيل.
وخلال الاحتجاجات الحالية ظهرت مؤشرات على أن الحكومة ربما عمدت للتهدئة مع المتظاهرين، حيث بادر المتحدث باسمها وزير الإعلام بشارة جمعة أرور إلى القول إن حق التظاهر السلمي مكفول بالدستور، قافزا بذلك فوق القانون الجنائي وقانون الأمن الوطني الذي يشترط التصديق المسبق.
وعلامة الاستفهام الكبرى كانت تدخل الجيش لحماية المتظاهرين والمنشاءات الإستراتيجية في كل من القضارف وعطبرة وربك، وفق ما ظهر في العديد من المقاطع المصورة بوسائل التواصل، مما أعطى المظاهرات نكهة الانتفاضة وفتح باب التساؤلات عن مدى تماسك نظام الحكم، وهو ما لم يحدث في أي احتجاجات سابقة.
موقف المعارضة
والمربك أن الاحتجاجات المستمرة في السودان حتى صباح السبت -وما صاحبها من إحراق لمرافق حكومية في مدينة الرهد بولاية شمال كردفان- لا يوجد من يتبناها، كما أن المعارضة ما زالت بعيدة عنها، بينما كان واضحا التحاق الأخيرة باحتجاجات سبتمبر/أيلول 2013 وتعرض قادتها للاعتقال.
وحتى الآن لم تتعرض قيادات القوى السياسية المعارضة لأي اعتقال يذكر، وقد برّأ مدير جهاز الأمن -مساء الجمعة- المعارضة من التورط في التخريب.
لكن صلاح قوش اتهم عناصر تتبع حركة تحرير السودان -بقيادة عبد الواحد محمد نور- بالوقوف خلف عمليات التخريب في عطبرة والقضارف، وقال إنها تلقت تدريبا على يد الموساد بإسرائيل.
السلطات الآن تتعامل مع رقعة مظاهرات تمتد من الخرطوم تجاه عطبرة ودنقلا شمالا، وربَك جنوبا، والأبيّض غربا، والقضارف شرقا.
إذن سيكون التحدي الماثل أمام المحتجين والحكومة هو: أيهما سيصمد أكثر في لعبة عنوانها الصبر.