ما أشبه اللغة بالكائن الحي الذي يتعرض لعوامل القوة والضعف، والنمو والانكماش، والصحة والمرض، بل الموت والاندثار، وربما وصل الأمر إلى تصارع لغة مع غيرها من اللغات، كما هو الواقع الذي يحدث خلال التدافع الثقافي واللغوي في وقت توسع الحضارات أو تراجعها، أو حين تتعرض دولة ما لاحتلال من دولة أخرى.
لذلك لا تستغرب إذا قرأت أن عدد لغات العالم قديمًا، كان يتراوح بين (31 ألف – 600 ألف) لغة، وقد تقلص هذا العدد اليوم إلى أقل من 7 آلاف لغة، بل يتوقع لغويون اندثار 50% من هذه اللغات بنهاية القرن الحادي والعشرين.
وبالنسبة للغة العربية فإنها تتمتع بالكثير من عوامل القوة التي ترفعها إلى مكانة متقدمة بين لغات العالم، واستطاعت الصمود لأكثر من 20 قرنًا، ولها حضور متميز على الخريطة اللغوية، لا سيما في أفريقيا وآسيا؛ حيث استقرت «العربية» في غالبية أنحاء أفريقيا منذ وقت طويل يسبق دخول أية لغة من اللغات الأوروبية إلى القارة السمراء، وترسخت هذه المكانة بشكل خاص في غالبية دول شرق أفريقيا وغربها، بينما تتراجع هذه المكانة تدريجيًا كلما اتجهنا صوب جنوب القارة.
ويرجع ذلك إلى أن أفريقيا عرفت اللغة العربية مع انتشار الإسلام في وقت مبكر من القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، وبمرور الوقت تحولت اللغة العربية في أفريقيا من لغة العبادة إلى لغة التجارة، والعلوم، والثقافة، حتى باتت لغة الحكومة والإدارة والقضاء وأصبحت اللغة الرسمية في عهد مملكة غانا الإسلامية، ثم في عهد مملكة مالي الإسلامية، فيما بين القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلادي.
وفضلًا عن كونها اللغة الرسمية في الدول العربية التي تقع على طول الساحل الشمالي للقارة، فإن اللغة العربية بلغت ذروة مجدها بأفريقيا في عهد مملكة «سنجاي» الإسلامية التي حكمت معظم أراضي غرب أفريقيا (القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي)، وقد تزامنت المكانة التي وصلت إليها مملكتا مالي وسنجاي من القوة مع الاعتماد على الإسلام عصب قوتهما الروحية والمادية، وصارت اللغة العربية لغة الكتابة الرسمية لهما.
ولأكثر من 12 قرن كانت اللغة العربية هي اللغة الأولى في معظم دول القارة، وتركت آثارها في كثير من اللغات واللهجات المحلية، وظهر هذا الأثر واضحًا في لغات الهوسا وسونجاي والفولاني ، ويوجد في هذه اللغات مئات الكلمات ذات الأصول العربية، كما استُخدمت الحروف العربية في كتابة الكثير من اللغات الأفريقية، مثل الهوسا، والفولانية، والوَداد، والسواحيلية، والطارقية، والديولية، والسيريريونية، والولوفية، وغيرها.
الحرب الفرنسية على اللغة العربية
أخذت اللغة العربية تتوسع في أفريقيا حتى بدأ عهد الاحتلال الأوروبي، وبخاصة الفرنسي، في القرن التاسع عشر، والذي أعلن منذ مجيئه حربًا ضروسًا على الثقافة الإسلامية واللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية بدلا منها. فقد كان هدم اللغة العربية واحدًا من أهم الأدوار التي لعبها الاحتلال الفرنسي لدول أفريقيا، فعملت فرنسا جاهدة على حذف العربية من الحياة الاجتماعية والعلمية وتثبيت لغتها، حتى أشاعت بين الشعوب المحتلة أن لغة الثقافة والحداثة هي اللغة الفرنسية وحدها.
في إطار هذه السياسة، يقول الجنرال بول مارتي، في كتابه «مغرب الغد» (Le Maroc de demain) الذي صدر سنة 1925، في صفحة 241: «كل تعليم عربي وكل تدخل من قبل الفقيه وكل ظاهرة إسلامية يجب محاربتها بصرامة تامة، وبذلك نجذب إلينا الأطفال عن طريق مدارسنا وحدها».
ووصل الأمر بالسلطات الفرنسية إلى حد منع الفرنسيين الموجودين بالدول التي تحتلها من مخاطبة سكان تلك الدول بغير اللغة الفرنسية مهما كانت الظروف والملابسات.
دور الفرانكوفونية في محاربة العربية
لتحقيق هذه السياسة، بذلت فرنسا كل ما تستطيعه من جهد في سبيل نشر لغتها، وأنشأت لذلك «المنظمة الدولية للفرانكفونية» وهي منظمة تشرف عليها وزارة الخارجية الفرنسية ويعمل في إطارها العديد من المنظمات التي تمارس الغزو الثقافي واللغوي لشعوب الدول التي وقعت يومًا تحت الاحتلال الفرنسي.
ويعود وضع مصطلح الفرانكفونية إلى الجغرافي الفرنسي «أونسيم روكولو» الذي عرفه سنة 1880، بأنها تهدف إلى الترويج للغة والثقافة الفرنسية، وبطبيعة الحال فإن هناك أبعاد سياسة واقتصادية أخرى بجانب البعد الثقافي للمنظمة، التي تحولت إلى أداة وسلاح في الحرب المعلنة على اللغة العربية والثقافة الإسلامية بالدول الأفريقية وغيرها.
وبذلك تحولت «اللغة الفرنسية» إلى أداة من أدوات غزو أفريقيا، وامتصاص خيرات القارة الغنية بالموارد الطبيعية، ولن يتسنى لها ذلك، إلا بإزاحة اللغة العربية وغيرها من اللغات الرئيسية في القارة لحساب الفرنسية.
وبسبب هذه الممارسات، يرى ناقدون للفرانكوفونية أن اللغة الفرنسية التي كان يتم تقديمها سابقا على أنها مفتاح الثقافة والحضارة، هي في الحقيقة «مفتاح الاستعمار والعنصرية»، ففي روايتها «غناء الزنبق والريحان» تشرح الكاتبة الجزائرية لطيفة بن منصور محاولة «استعمار الروح» عبر اللغة الفرنسية وتقول إن القائمين على مدارس الاستعمار كانوا يريدون إخضاع النفوس، وغسل أدمغتها لإنتاج فرنسيين صغار على دراية بمعارك فرنسا في بواتييه ووترلو، وعلى دراية كاملة بأسماء الشعراء والكتاب الذين يتحدثون عن مجد فرنسا، أكثر من درايتهم بتاريخهم العربي وبالكتاب والشعراء العرب الذين يتحدثون عن أمجاد بلادهم العربية.
توظيف إرسال البعثات العلمية إلى فرنسا
هدفت باريس إلى تخريج أجيال من المدارس والجامعات العربية، وغيرها بالدول الفرانكوفونية، وهم يحملون الثقافة الفرنسية حتى يتحولوا إلى «فرنسيين صغار» يخدمون مصالح فرنسا أكثر من خدمة الجنرالات الفرنسيين أنفسهم، على طريقة أن الحرب الثقافية أكثر نفعًا من الحرب العسكرية.
كل هذا يدخل في إطار ما يسمى بسياسة التذويب الثقافي أو الفرنسة والاستيعاب، التي تهدف إلى تذويب السكان الأفارقة في الثقافة الفرنسية، عبر إرسالهم إلى بعثات تعليمية إلى باريس، ثم تستطيع فرنسا انتقاء العناصر التي تراها مناسبة منهم وتتنباهم حتى يصبحوا فرنسيين فكرًا وعملًا، ويصبح تكوينهم الثقافي في مختلف النواحي مشابهًا تمامًا للفرنسيين، تمهيدًا لتعيينهم في وظائف مهمة في بلدانهم يستطيعون من خلالها تحقيق المصالح الفرنسية.
ولن تتحقق هذه المصالح إلا من خلال خطوات عديدة، يبدأ أولها من إضعاف اللغة العربية وإبعاد الشعوب عن استخدامها في حياتهم اليومية والتعليمية، وتوجيههم قسرًا لاستخدام الفرنسية وتعلمها واستخدامها في كل تعاملاتهم وشؤونهم.
رفع قيمة «المفرنسين» وتشويه متعلمي العربية
على أساس هذه السياسة، راحت فرنسا تفرض اللغة الفرنسية في مستعمراتها في مقابل تهميش اللغة العربية وغيرها من اللغات المحلية، ومن أبرز وسائل باريس في ذلك، غرس مفاهيم مشوهة في نفوس الشعوب المحتلة مفادها رقي اللغة والثقافة الفرنسية وتخلف ما سواها من الثقافات واللغات، وفي نفس الوقت تنشر روح عداوة مقيتة للغة العربية والثقافة الإسلامية بين المسلمين وغير المسلمين.
كما سعت فرنسا لإبعاد اللغة العربية عن الساحة العلمية والفكرية والسياسية، وفرض لغتها وتصوير دارس اللغة الفرنسية على أنه المثقف الحقيقي، وأما دارس اللغة العربية فيُعامل كالأمي مهما بلغت رتبته العلمية ومكانته الثقافية، ومن هنا أبعدوه عن أية مناصب في المجال الثقافي، والسياسي، والاقتصادي، وعملت على تشويه صورته في وسائل الإعلام المختلفة.
وفي مقابل ذلك فإن النخبة «المفَرْنَسَة» تقدم على أنها صاحبة الحظ وشاغلة المناصب في كل المجالات السياسية والثقافية، طالما كانت موالية للثقافة الفرنسية وتعمل على تحقيق مصالح باريس السياسية والاقتصادية في نهاية المطاف.
وللوصول إلى ذلك، وضعت فرنسا لغتها في مكانة سامية، لمعرفتها بأن اللغة وسيلة للوصول إلى أهداف متعددة، أهمها أنها إذا ارتبطت دولة ما بلغة وثقافة دولة أخرى، فإنها ستتبعها بالضرورة سياسيًا، واقتصاديًا، وهذه المعادلة واضحة وتركت آثارها حتى بعد الانسحاب العسكري للمحتل وحصول الدولة المحتلة على استقلالها، إلى أنه استقلال شكلي وناقص، فقد خرجت فرنسا وتركت وراءها لغتها على أنها لغة رسمية، ولغة الثقافة والتعليم وحتى لغة التعامل في الدواوين الرسمية.
إثارة نعرة اللهجات المحلية حتى الآن
تقوم المؤسسات الثقافية الفرنسية حتى الآن على طول العالم العربي بمحاولات لإحياء وتكريس اللهجات المحلية وتحتفي بها، لكن المفارقة أن ما تفعله فرنسا مع غيرها من الدول تمنعه داخل أرضها.
بينما تعمل على تشجيع اللهجات المحلية ضد العربية الفصحى في الدول المغرب العربي، وسوريا، ولبنان، ومصر، عبر مؤسساتها الثقافية، خاضت فرنسا حروبًا طاحنة في بلادها لتسييد الفرنسية الرسمية على كل اللهجات المحلية. حتى أن الدستور الفرنسي كان واضحًا للغاية ومتشددًا فيما يتعلق بجعل اللغة الرسمية للجمهورية هي الفرنسية فقط، ومشددًا على منع أية لهجات أو لغات أخرى تحدث بها الفرنسيون في السابق، وذلك بالنظر إلى تاريخ وثقافة فرنسا المعقدة الذي شهد اختفاء 11 لغة أصلية عبر العصور الماضية.
ولذلك تجد في كثير من الأنشطة الثقافية لمنظمة الفرنكوفونية «الترويج للغة العربية وثقافتها على أنها مجرد لهجة أو لغة ميتة نادرة ومهجورة، وضعها يشبه وضع اللاتينية اليونانية القديمة، فهي غير مقروءة وصعبة، معقدة غير قابلة للاستيعاب، ولا تؤدي وظيفة التواصل، ولا تلائم الحضارة المعاصرة، وإنما تنحصر في مجال العبادة فحسب».
كما تدخل البرلمان الفرنسي حين أحس بالخطر على اللغة الفرنسية سنّ قوانين تحفظ مكانتها ومن أهمها قانون «لزوم الفرنسية» الذي صدر عام 1994. وقبل قرنين من الزمان صادق «برلمان الثورة» على قانون صارم لتعميم اللغة الفرنسية تضمن مادة جزائية نصت على أن كل من يخالف هذا القانون ويحرر أية وثيقة بغير الفرنسية، يطرد من وظيفته ويسجن ستة أشهر.
كتابة اللغات الأفريقية بالحرف اللاتيني بدلًا عن العربي
لقرون طويلة، توسعت عملية استخدام الحروف العربية في كتابة العديد من اللغات؛ وكانت الكتابة بالحروف العربية هي الأكثر استعمالًا في معظم دول أفريقيا فكانت كل لغاتها تكتب بالأبجدية العربية؛ اللغة الأفريكانية، والبربرية، ولغة الهراري، والهوسا، والفولانية، والماندينكية، والولوفية، والنوبية، والسواحلية، واليوروبية وغيرها.
وعندما تمكن الاحتلال الفرنسي والإنجليزي من دول القارة، حارب الحرف العربي، وعطل كتابة اللغات الأفريقية به، واستبدل بها الحروف اللاتينية، وقد نفّذ ذلك على مراحل، فطبعت لأول مرة في فترة الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي كتب بالحروف اللاتينية، بكل من لغتي الهوسا والسواحيلية، وهما أكبر اللغات الأفريقية في غرب أفريقيا وشرقها.
وفي فترة الستينات من القرن العشرين، تم تكريس هذا الاتجاه عالميًا تحت إشراف اليونسكو خلال مؤتمر عقد في داكار، حيث اعتمدت كتابة اللغات الأفريقية بالحرف اللاتيني، ووضعت القواعد الثابتة لذلك، وهي خطوة حاسمة تم بها فصل الأفارقة عن تراثهم وتاريخهم المكتوب باللغة العربية، وعزل الأجيال الأفريقية ثقافيًا عن ماضيها العربي، بالرغم من أن الثقافة الأوروبية تعتبر دخيلة على أفريقيا، إذ كانت نتاجًا لاستعمار بدأ وانتهى في القرن الماضي.
محاربة الكتاتيب وتشجيع التعليم الفرنسي
أحد أبرز وسائل محاربة فرنسا للغة العربية تمثل في إغلاق منافذ تعليمها، والذي كان يتمثل في ذلك الوقت في الكتاتيب ومدارس تعليم القرآن والمواد الشرعية، وفي نفس الوقت كانت تتوسع في إنشاء مدارس للتعليم الفرنسي وإرسال بعثات تعليمية إلى باريس تختار فيها النابهين من أبناء البلد المحتل.
ونهجت السلطات الفرنسية سياسة متشددة إزاء كل مؤسسات التعليم الإسلامي والعربي، وحاول قادة الاحتلال الفرنسي في غرب أفريقيا إكساب المدارس القرآنية الطابع الغربي وإدخال الفرنسية فيها كلغة دراسة، وذلك منذ 1857م، ولكن الشعب السنغالي رفض هذه المحاولة فكررت السلطة الفرنسية مساعيها سنة 1870، و1896، و1903، و1905، لكن هذه المحاولات أخفقت جميعها فابتعدت السلطة الفرنسية عن محاولة السيطرة على المدارس القرآنية، وأنشأت مدارس عربية فرنسية في المدن الكبرى، ونجحت في الأخيرة؛ لأنها تمكنت من سحق اللغات المحلية ومحاصرة اللغة العربية وفرض الفرنسية لغة رسمية للعديد من البلاد الناطقة بالفرنسية في أفريقيا اليوم.
ووصل الأمر في مايو (آيار) عام 1911، وسبتمبر (أيلول) من العام نفسه إلى إصدار وليام بونتي الحاكم العام لغرب أفريقيا الفرنسي من سنة 1908 إلى سنة 1915، قرار بمنع استعمال اللغة العربية، حتى في المحاكم الإسلامية، في كل من مدينة دكار وسانت لويس وغيرها من المدن، وطلب من موظفيه «منع نشر الكتب الإسلامية حتى لا تنتشر الأفكار المعادية للاستعمار».
كما أنشأ الاحتلال الفرنسي في دول غرب أفريقيا العديد من مدارس القضاة والمترجمين، تهدف إلى تربية الأجيال الجديدة، ويرى «بونتي» أنه «لا بد أن نوجد لهم مدرسة نكون فيها أبناءهم ونفسر لهم فيها القرآن تفسيرًا لا يتنافى مع الحكم الفرنسي، ونعلمهم فيها الفقه تعليمًا لا يكون منافيًا مع ما تريده الإدارة الفرنسية».
إصدار قوانين لمحاربة العربية
حين وجدت السلطات الفرنسية أن السبل الناعمة في محاربة اللغة العربية لا تفعل النتائج المرجوة منها، لجأت إلى سيف القانون واتخاذ إجراءات رسمية لمنع استخدام اللغة العربية.
ففي الجزائر على سبيل المثال، ومنذ بدء الاحتلال الفرنسي عام 1830 فرضت باريس لغتها وثقافتها، وحرمت في الوقت نفسه تدريس اللغة العربية والتعامل بها، فلم تعد اللغة العربية لغة للتعليم والثقافة، ولم تعد تصدر بها كتب أو جرائد، وفي الثامن من مايو 1936 صدر قرار من السلطات الفرنسية بمنع اللغة العربية في القطر الجزائري، نص على أن «اللغة العربية تعد لغة أجنبية»، وذلك تمهيدًا لإحلال الفرنسية بدلًا عنها.
ويأتي هذا القانون في سلسلة قوانين سنَّها الاحتلال الفرنسي لمحاربة اللغة العربية، وجعل اللغة الوحيدة للبلاد هي اللغة الفرنسية، وكان لهذه القوانين الأثر الكبير في المجتمع الجزائري، وتحويل لغة التعليم والإدارة والحكم إلى اللغة الفرنسية.