أثبتت استراتيجية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون العنيفة تجاه المعارضة البرلمانية لخططه، فشلها يوم أمس الثلاثاء، عندما سحب البرلمان سلطة تحديد الأجندة البرلمانية من يد الحكومة، وبدعم من 21 نائباً محافظاً تحدوا تهديداته بفصلهم من الحزب. وأدت الخطوة البرلمانية إلى سحب زمام المبادرة عملياً من يد رئيس الوزراء في ما يتعلق بـ"بريكست"، خصوصاً عندما يتم تمرير التشريع الخاص برفض "بريكست" من دون اتفاق، كما هو متوقع مساء اليوم الأربعاء.
وسيشهد البرلمان البريطاني اليوم، جلسة ماراثونية يسابق فيها الزمن، لإقرار التشريع المطلوب قبل نهاية الأسبوع الحالي، والتوجه نحو فترة الإغلاق المقرر بدؤها الأسبوع المقبل. ويحتاج التشريع لأن يمرّ بمراحل عدة من المناقشة والتصويت في مجلس العموم، ليمرّ بعدها بالمراحل نفسها في مجلس اللوردات، ومن ثم ينتظر الموافقة الملكية.
ووفقاً لنص التشريع محط النقاش اليوم، يتوجب على رئيس الوزراء طلب تمديد موعد "بريكست" أثناء القمة الأوروبية المنتظرة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول في حال الفشل في التوصل إلى اتفاق بحلول يوم 14 من الشهر ذاته. وتكون فترة التمديد المقترحة حتى نهاية يناير/ كانون الثاني المقبل. إلا أن جونسون يرفض هذا السيناريو، وهو الذي بنى حملته الانتخابية على أساس الخروج من الاتحاد في الموعد المقرّر مهما كان الثمن. ويُنتظر منه أن يعلن عن انتخابات عامة يتم إجراؤها يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول، للحصول على برلمان جديد يعتقد أنه سيدعم خطواته للطلاق مع بروكسل.
ولكنّ جونسون لا يمتلك عملياً الكثير من الخيارات، وخصوصاً بعدما فقدت حكومته الأغلبية البرلمانية يوم أمس الثلاثاء. ففي خطوة درامية أثناء مخاطبة جونسون للبرلمان، عبر النائب عن حزب "المحافظين" فيليب لي الخطوط البرلمانية، من ضفة الحكومة إلى ضفة المعارضة، ليعلن انشقاقه عن حزب "المحافظين" لصالح "الديمقراطيين الليبراليين". وبالتالي فقد جونسون أغلبية الصوت الوحيد التي امتلكتها حكومته، ولن تستطيع، بناء على ذلك، تمرير أي تشريع في البرلمان لافتقارها الأغلبية العددية.
إلا أنّ عناد جونسون وإصراره على سياسته لم ينتهيا عند ذلك الحد، بل نفذ وعيده بعيد خسارته التصويت، بطرد معارضي سياساته من الحزب، عندما أبلغ 21 نائباً محافظاً صوتوا ضده ولصالح المعارضة، بحرمانهم من الترشح باسم "المحافظين" في الانتخابات المقبلة. وبالطبع فإن خطوات جونسون تصب في رؤيته لشكل البرلمان المقبل، حيث كان منذ فترة قد رسم خطوط المواجهة في خطابه السياسي بين الشعب والبرلمان، موجهاً اللوم للأخير في "عرقلة الإرادة الشعبية" الممثلة باستفتاء "بريكست"، والذي أعلن عن نفسه وصياً على تنفيذه.
ويتجه رئيس الوزراء البريطاني، بناء على ما سبق، إلى تطهير حزب "المحافظين" من معارضيه، وخوض الانتخابات المقبلة بقوائم مؤيدة لـ"بريكست" مشدّد أو حتى من دون اتفاق. وتعزز استطلاعات الرأي من توجهه ذاك، حيث تمنح حزبه المركز الأول عند 33 في المائة، بينما يقبع "العمال" في المركز الثاني عند 25 في المائة، و"الديمقراطيون الليبراليون" عند 18 في المائة. ولكن نتيجة الانتخابات ليست مضمونة، وخصوصاً أن حزب "بريكست" ينافس "المحافظين" على القاعدة الانتخابية ذاتها. وكان النائب عن "المحافظين" كين كلارك، وهو أحد المتمردين على حكومة جونسون، قد وصف حزبه بأنه "حزب بريكست بشكل جديد"، وذلك بعد حملة القمع التي يشنّها جونسون ضد معارضي رؤيته لـ"بريكست".
وشملت قائمة المفصولين من قوائم الحزب الانتخابية، عدداً من وزراء حكومة تيريزا ماي السابقين مثل فيليب هاموند، وديفيد غوك، وآخرين ممن خدموا في الحزب لعقود عدة، وينتمون جميعاً للتيار الوسطي فيه. وبينما يسعى جونسون بذلك للتخلص من العقبات التي واجهت تيريزا ماي نتيجة الانقسام الحزبي، والذي كان هو نفسه أحد أعمدته، نقلت الصحف البريطانية صورة لرئيسة الوزراء السابقة بعد التصويت والابتسامة على وجهها، ما فُسر على أنه "شماتة" بجونسون الذي كان أحد أسباب سقوطها.
وبالتأكيد لن تنتهي متاعب جونسون عند هذا الحد. فوفقاً لقانون الانتخابات البريطاني، لا يستطيع رئيس الوزراء تحديد موعد الانتخابات كيفما شاء. فرئيس الوزراء بحاجة لموافقة ثلثي أعضاء البرلمان لتعديل موعد الانتخابات المقرر حالياً في 5 مايو/ أيار 2022. وبما أن حكومته تفتقر للأغلبية العددية، فإنه بحاجة لموافقة حزب "العمال".
إلا أن جيريمي كوربن، زعيم "العمال"، يرفض دعم هذا التحرك ما لم يتم تمرير التشريع الخاص بمنع "بريكست" من دون اتفاق أولاً، وذلك لضمان ألا تقوم الحكومة بتنظيم الانتخابات العامة بعد موعد "بريكست" المقرر يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول، وخصوصاً أن جونسون يستطيع تعديل موعد الانتخابات (بعد الحصول على موافقة البرلمان)، متذرعاً بأي حجة كانت.
وبعد يوم كارثي لجونسون وحكومته، شهد خسارته لأوراق قوته، يبقى خيار الانتخابات العامة الورقة الوحيدة في يده، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي الأخيرة تمنحه الأعداد اللازمة للحصول على أغلبية عددية في البرلمان المقبل. ولكن استطلاعات الرأي أثبتت عدم دقتها في انتخابات عام 2017، والتي خسرت فيها حكومة ماي أغلبيتها، بعدما كانت متقدمة في الاستطلاعات بفارق 21 نقطة على "العمال".
كما أن الأحزاب الأخرى مثل "الديمقراطيين الليبراليين" و"بريكست" تنافس "العمال" و"المحافظين" على قواعدهما الانتخابية، وذلك لدعم الأول للبقاء في الاتحاد الأوروبي وتأييد الثاني لعدم الاتفاق. ويدعم موقف هذين الحزبين أنهما ليسا الحزبين الرئيسيين في البلاد، واللذين يوجه لهما اللوم لمأزق "بريكست"، بينما يُنتظر أن يهيمن "القوميون الإسكتلنديون" على المقاعد الإسكتلندية في برلمان ويستمنستر. وقد تكون ترجمة الأرقام حينها فشل "العمال" و"المحافظين" في حصد الأغلبية، والاعتماد على تحالف تكون فيه الأحزاب الأصغر "صانعة الملوك".
محكمة اسكتلندية: قرار تعليق البرلمان قانوني
إلى ذلك، بتّ قاضٍ بريطاني في أعلى هيئة قضائية مختصة في اسكتلندا، اليوم الأربعاء، لصالح قرار جونسون تعليق أعمال البرلمان. ورفض القاضي ريموند دوهرتي في إدنبره طعناً قضائياً قدّمه معارضو جونسون، وهو أحد الطعون المتعددة المرفوعة أمام المحاكم.
وكان جونسون تلقى يوم أمس الثلاثاء، أول هزيمة في البرلمان البريطاني بعدما استدركت المعارضة البرلمانية الموقف ووجهت ضربة لسياساته الخاصة بـ"بريكست"، ليفقد جراءها السيطرة على مسار الأحداث.
وباشر جونسون ولايته قبل خمسة أسابيع بتحركات صارمة تصب في مسار الخروج من الاتحاد الأوروبي في موعد "بريكست" المقرر نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، مهما كان الثمن؛ بل إنه كشف عن نزعة دكتاتورية عندما أعلن إغلاق البرلمان لخمسة أسابيع ابتداء من الأسبوع المقبل، ليتخلص من أية معارضة برلمانية لسياسته قبل موعد القمة الأوروبية المقررة منتصف أكتوبر.
كما حذر جونسون معارضيه من نواب الحزب الحاكم من إمكانية تطبيق إجراءات عقابية على "تمردهم"، وحرمانهم من الترشح في أية انتخابات عامة مقبلة؛ بل إنه ذهب أبعد من ذلك ليقول للبرلمان إنه سيرفض الالتزام بطلب تأجيل موعد "بريكست"، إذا ما سنّ المجلس التشريعي البريطاني قانوناً يجبره على ذلك.