لم تكن الحرية والديمقراطية في يوم من الأيام إلا لصالح الشعوب، فهذه شعوب الغرب تأخذ بها كمبادئ لنظمها السياسية الحاكمة، لم تبدلها ولم تغيرها لا بسبب كارثة طبيعية، ولا بسبب أزمة مالية أو سياسية.
لم يقل أحد عن فوز اليمين في هذه الدول على أنه تطرف؛ رغم تطرف بعض مواقفها من قضايا إنسانية عالمية.
كما لم يكن فوز اليسار أو المميلين لليسار مبررا للدول الرأسمالية لأن تقف ضد إرادة شعوبها في حرية اختيار ممثليها وحكامها.
ما كانت الديمقراطية ضد النظم الوراثية أبدا، فهناك ملكيات دستورية، تمارس شعوبها الديمقراطية والتعددية مع بقاء الأنظمة الملكية فيها في كثير من دول العالم .
لم تكن خصومة اليمين لليسار مبررا لإلغاء ما لليسار من حق حصل عليه نتيجة الانتخابات.
كما لم يكن فوز اليمين هناك، دافعا لأن يدعو اليسار لإلغاء المؤسسة المنتخبة الفائز فيها خصمه؛ برلمانا كانت أو رئاسة.
لم ينادي تيار في اليمين أو اليسار هناك بإقصاء الآخر وإلغاء حقه الدستوري.
لم ينادي أحد بإعدام مؤسسات ديمقراطية قائمة كونه لم يرغب فيها، ومن باب أولى لم تقم مؤسسة بإعدام أحد بسبب حق مكفول دستوريا..
فكيف يحضر الخلاف المفضي إلى صراع بين التيارات الوطنية في الدول العربية بسبب حق نؤمن به جميعا، وتنص عليه المواثيق الدولية؟
لماذا أصبحت بعض هذه التيارات تقف بالضد من الإرادة الشعبية؟
يتفهم المرئ اختلاف وجهات النظر واختلاف الآراء والمواقف من الأحداث السياسية في أي بلد.
كما يتصور الشخص وقوف اليمين ضد اليسار واليسار ضد اليمين مثلا..لكن المكان المناسب لحسم هذا الاختلاف هو صناديق الاقتراع، لا اتباع سياسة الإقصاء والابتلاع .
ما لم يُفهم وقوف "بعض" التيارات السياسية في الوطن العربي ، ضد بعضها الآخر، و وقوفها ضد الحرية والديمقراطية و لنتائج الانتخابات الحرة والنزيهة في بعض الدول العربية؛ بل واستخدام هذه التيارات كأدوات مبشرة و داعمة للانقلابات على الديمقراطيات الناشئة !
يُنتظر من التقدمي والليبرالي والإسلامي والقومي أن يسهموا جميعا بآرائهم ومواقفهم لأجل تقدم الشعوب وتطورها؛ بثبيت حق الحرية والديمقراطية والتنمية، لا أن يعمل البعض من هؤلاء على وأد هذا الحق الذي تنص عليه جل دساتير العالم، وكافة المواثيق الدولية.
النضال الحقيقي يتحقق بالثبات على المبادئ والقيم الجميلة وتجسيدها على أرض الواقع.
النكوص عنها ردة غير متوقعة، والارتهان لثقافة التيئيس من جدوى الديمقراطية، خطيئة كبرى.
المقولة التي تقول إن شعوبنا العربية لا تصلح للديمقراطية فيها من المهانة والدونية وجلد الذات ما يجعل ترديدها جريمة بحق الأمة والتاريخ؛ فكيف يردد بعض المحسوبين على الثقافة، هذه المقولات الخاطئة.
كما أن الخصومة السياسية التي تجعل بعض التيارات أدوات مقوضة لمداميك البناء الديمقراطي لعدم تحقق طموحها في التمثيل الشعبي الديمقراطي هي خصومة فاجرة، كما أن مثل هذه الحسابات هي حسابات خاطئة وقاصرة.
إن من نجح اليوم في العملية الديمقراطية، ربما سيسبقه خصمه في عملية ديمقراطية قادمة؛ فليس هناك استمرار لحزب أو تيار في قمة السلطة ما دامت هناك تعددية وهناك ديمقراطية حرة، فعلامَ يكون التبشير بالاستبداد !
إن التشمير للمنافسة أشرف من التبشير بالمناجزة، والتنافس الشريف خير من الخصومة الفاجرة.
إن الديمقراطية تعلم التيارات والشعوب كيف يتم التداول السلمي للسلطة؛ بدلا عن الصراعات الدامية، القائمة على استخدام القوة العسكرية؛ أو الاستقواء بالخارج ضد إرادة الشعوب.
أجزم أن ضغط الشعوب بالأساليب السلمية على حكوماتها لتحقيق مطالبها، وكذا صبرها الفترة الديمقراطية المحددة لكل مؤسسة منتخبة وفق الدساتير أقل كلفة من مبرر التعجل بانقلابات تستولي على السلطة بالقوة؛ من قبل من يستغلون الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية السيئة لإدخال الشعوب في دوامة الفوضى .
لقد تبين بالملاحظة أنه بعد الانقلابات تمر الفترات الزمنية المقررة لكل عملية انتخابية مرورا بلا حسبة، فقد تمر بضع فترات انتخابية، والمنقلب على السلطة يراوح مكانه في التصدي لمن يسميهم أعداء الوطن؛ وهم جموع الشعب المتطلع إلى حياة كريمة تسود فيها الحرية والديمقراطية وحق هذا الشعب في اختيار حكامه وممثليه، فلا تحققت التنمية المنشودة، ولا بقيت الحرية والديمقراطية.
تمضي السنين - بوجود الصراعات - والوضع الاقتصادي والمعيشي في أسوأ حالاته، ناهيك عن الكلفة الباهظة من دماء وأرواح أبناء الشعب الذين يذهبون ضحايا الاستبداد والصراعات الدموية ولنا في اليمن مثال واضح.
النخب التي بدلت التفكير العقلي بالتدبير المعيشي، وانشغلت بالمصلحة المادية الآنية لشخوصها جعلت من نفسها أداة طيعة بيد الرأسمال الإمبريالي الذي يقف ضد إرادة الشعوب، عبر أدواته المعروفة في المنطقة والعالم.
التقدميون الذين يعملون لأجل تمرير مشاريع قوى الاستبداد، يعرضون مصالح شعوبهم وثروات أوطانهم لكل ناهب، وهم بذلك يخدمون القوى الرجعية بقصد أو بدون قصد .
لا يعتبر نجاحا المصلحة الآنية التي يتحصل عليها تيار أو أشخاص؛ بمقابل أن يتعرض فيه حاضر ومستقبل الشعب للصراعات السياسية والدموية جراء لجم إرادته ووأد حقه في الحرية والديمقراطية.
إن مثل هؤلاء كمثل من يدمر حقه بيده فيحرم ولده من بعده.
دعونا من الخصومات التي تعامل الخصم السياسي كعدو؛ ولندعْ شيطنة تيارات وطنية لها شعبيتها المعروفة، مجاراة لبعض السياسات الخارجية، فقد تتحول هذه السياسات في الغد ضد التيارات المُستخدَمَة اليوم؛ ما يعني بقاء الشعوب في حالة من الأفعال وردود الأفعال غير المحسوبة، تؤول إلى صراعات بينية مستمرة لا تستفيد منها إلا قوى خارجية.
لننتصر على أنفسنا بالحفاظ على قيم المحبة والقبول بالآخر، والحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي تنال منه الصراعات وتمزقه .
لتبقى حقوق الحرية والديمقراطية والرأي والرأي الآخر، وقيم التعايش والحوار ثابتة في العقل والضمير والوجدان حتى لا يتجاوزها أحد في الواقع.
لنحارب الانتهازية والأنانية والمصالح الآنية في نفوسنا، ولنهزم خصومنا السياسيين من خلال صناديق الاقتراع؛ بدلا عن الصراع الدموي الذي يذهب بنا محمولين على صناديق الموت .