هذا لا يعقل..! لا يعقل أبدًا، هذا جنون لم يحدث ولن يحدث، هذا فساد وطغيان وإستكبار، هذا إهلاك للبشر ولحياتهم ووقوف بغرور أمام إرادة رحمة الله..!
أنتم لا تتخيلون ما سأخبركم به الأن، ما ستسمعونه عن مجموعة فاسدين لم يرحموا الناس، ولم يتركوا رحمة الله تنزل..!
لا أحد يعرف ماذا يريد هؤلاء الإقطاعيون من الناس ومن الفقراء ومن الجائعين ومن المطحونين ومن الشعب في قعر الجحيم..!!
في مديرية ذي السفال -مدينة القاعدة- أخر مديريات إب بإتجاه مدينة الحوبان تعز، يعيش عشرات الألاف من النازحين واللاجئين القادمين من تعز على وجه الخصوص، مع أبناء القرى المترامية بأطراف مديرية دي السفال، خلال سنوات الحرب الأخيرة تزايد عدد البشر المكتظين في مفاصيل مدينة القاعدة، في حاراتها وأزقتها والتفافاتها المليئة بالوحل والمشقات، بالمئات في البيوت، بالألاف في الأحياء، دون أي معايير دنيا للحياة البشرية، إكتظاظ ونزوح ويأس وربما خيال وسراب عن ماضي وأمنيات وخيالات تتمنى العيش القديم، لم يتوقع الناس بتاتًا ما يجري بهم، ولم ينقطعوا وتتقطع بهم السبل كما يجري بهم اليوم في ملاجئهم الضيقة جدًا..
أي حياة تصبح مع الضيق واليأس وإنعدام الماء..؟!
لا أحد يتوقع إنعدام الماء وصعوبة وصوله إليهم، لكنه ما يجرب بالشعب في وطنه الممزق..!
حياتك بلا ماء تصبح أعمال شاقة، ضياع، خوف، توتر، يأس، إنقطاع، تفرغ، إستسلام، جوع يطل برأسه كل يوم، تفكير متواصل عن دبة ماء قادمة، لم يعد هناك أي سبل أخيرة سوى عشرات الأمتار والكيلوهات يقطعها الواحد منهم لجلب دبة ماء في صقبع حياته المتثلجة، صقيع التشرد والأثقال والأحمال الشاقة..!
في مدينة القاعدة، يقضي الناس حياتهم في التفكير بجلب دبتي ماء، ولمن حالفه الحظ منهم سيجمع طيلة حياته ما ينفقه لشراء وايت ماء يصل إليه بأضعاف أضعاف ما يمكن..
في تلك المناطق النائية من الماء، إجتمع الناس أخيرًا وإحتشد الضحايا وتناقشوا وإستجمعوا فوتهم وإرادتهم وقرروا المطالبة بحفر بئر ماء من السلطة، حينها تجرأ أحدهم وتقدم كفاعل خير وقال لابد من ذلك، علينا حفر بئري ماء عاجلة للناس، لا أحد يقوى على البقاء أكثر، هذا أخر أحلام الناس في هذا المكان الميؤوس منه، ولأجل هذا أعلن عن تبرعي بقطعة أرض في مكان مناسب لحفر بئرين ماء ستكفي مدينة القاعدة وضواحيها، وستنهي كارثة إنقطاع الماء وتخبط البشر المقطوعين من حياتهم..
عندها فقط تفاءل الناس كثيرًا، وإحتضن كل واحد منهم الأخر، وتقافزوا من السعادة والفرح، هذا بذرة أمل أخير لكنها نبتت في واقعنا القاتم، بعدها ذهب الممثلون عن الناس للحديث مع السلطة حاملين مفاجأتهم وبشراهم وتفاءلهم، وصلوا الى محافظة إب وتحدثوا مع المعنيين فيها ووافقت المحافظة ممثلة بمكتب وزارة المياة هناك على الإستجابة لمعاناة الناس وحل إشكاليتهم، ولأجل هذا وجهت بتحريك فريق متخصص لدراسة المكان وملائمته لحفر بئري ماء، وبالفعل عاد الدارسون للمحافظة، وأثبتوا إنه بالإمكان حفر البئرين في قطعة الإرض المعلن عنها، بعدها وجهت سلطة محافظة إب بتحريك حفار حكومي يتبع الدولة مع فريق لتامين عبوره، بالإضافة الى العمال المتخصصون وعدة الحفار كاملة، تحرك الموكب المليء بالفخر والإنجاز، كان يسير في الطريق كدولة تحيي شعبها وتتمنى له قضاء حياة سعيدة، وصل حفار الدولة الى مكان الحفر، بدأ العمال في العمل، بدأوا وكل الناس المستفيدين يساعدونهم بإخلاص ورغبة وسعادة، كانوا يفعلون كل شيء ويحملون ما يمكنهم حمله…!
كانوا يحفرون مستقبلهم وبقاءهم في قطعة الإرض..!
ولكن، لا شيء يبقى سعيدًا في هذا البلد الموبوء..!!
تداعى الإقطاعيون في منطقة الحفر، أشخاص في ذروة رخاءهم المعيشي، والمياة تتدفق عليهم معدنية صافية بحنفياتها الفخمة ولا تنقطع، إحتشد هؤلاء ذوي المصالح المادية الضيقة والإنانية من إنعدام الماء، المستفيدون من ضيق الناس وتعثرهم وإنقطاع سبلهم، أصحاب مصانع المياة وأبيار المياء، التجار، المالكون لأبيار الماء المبيوع لمصانع تعليب الماء التجاري المعقم، الماء المستثمر والأرباح المتدفقة كالشلالات النقية، أصحاب الوايتات مرتفعة الثمن، المتربحون من جلب منظمات الشفقة والصور، إجتمع هؤلاء ببعضهم مسنودون بإنتماءهم السلطوي لإنصار الله، حركوا مسلحيهم ووصلوا بفخامتهم وضربوا الرصاص على العمال والناس المنشغلون بحفر الأحلام، أوقفوا الحفر، ومنعوا الناس وهددوهم من الحفر، خاف الناس وفروا، ليس بإمكانهم مواجهة النار بالنار والتهديدات بالتهدات، كيف يفعلون هذا ومن يضربون النار عليهم يمثلون الدولة أيضًا، هؤلاء هم السلطة الحقيقية في زمن اللآخوف من الدولة..! بعدها قررت الدولة التدخل، نزل وكيل محافظة إب للشئون المالية والإارية لفرض عودة عمل الحفل، نزل بكامل ثقته بمنصبه في جهاز الدولة، وصل للمكان، رأه المسلحون المجواون حول ااحفار، لم يترددوا في الإنتظار أو التفكير، باشروا إطلاق النار عليه وعلى مرافقيه، هزموه وهزموا ثقته بدولته في أول دقيقة من وصوله، غادر بعدها المكان ليأتي من يُحكمه عن الهجوم عليه بالرشاشات..!
توقف الحفار عن الحفر، وتوقف الناس عن السعادة، وتوقفت المياء عن الإنهمار في الخيالات، توقف كل شيء وبقي صوت الرصاص مدويًا في الهواء حولهم، ذهبت الأحلام وبقي المسلحون يتجولون بالجوار لمنع تدفق الحياة الى الناس..
لم يستطع أحد إعادة العمل، لم تستطع قرارت الدولة حفر الأبيار..
لقد تحطم شكل الدولة في رؤوس الناس هناك..
هذا لا يعقل، أن يأتي مسلحون ويمنعون الدولة..! أي دولة..؟! هؤلاء أصبحوا الدولة..؟! وهم سادتها وبقية الشعب مجرد عطاشا يتمنى العبد منهم القليل من الماء..!
أنا لا أعرف حقًا متى سيجد الناس دولة تمثلهم، دولة تعنيهم هم وتضرب لأجلهم، دولة لا تمثل التجار والمستفيدين، دولة تحفر لشعبها الأبيار ولا تهرب من مسلحين يهددونها..!
أي حالة من اليأس العام صرت فيها يا وطن..!
أي أحلام من الأبيار ما زلت تحلمها.. ؟!
ولكن، لا أحد يظن أن هذا الباطل سيمر على الجميع..!!
أثق بهذا..
سيعود الناس لحفر أبيارهم وأحلامهم ومستقبلهم، وستعود الحفارات للضخ، وسيعود الأمل في خيالات الناس، هذه سنة تدفق الحياة، الحياة التي لا تقف لمجرد إقطاعيين يطلقون الرصاص، إقطاعيين يقدمون حياتهم وحياة أبناءهم على حساب حياة مئات الألاف من الشعب العاطش للحياة..!
وطني، أيها الذئب الملوي إلى البنادق..
أضعك على قلبي وأقسم بنارك وبردك..
سأنتزع حياتي من طغيانهم..
وأخيط لها أكمامًا وجناحات وأرتديها كالقميص..
وحيدًا، لكنني، أطير بها لا أخاف..