تغريدة واحدة استطاعت أن تجمع مختلف الفرقاء اليمنيين في الفيس بوك، من اليمين إلى اليسار إلى الوسط، لإدانة صاحبها. مظاهرة فيسبوكية للسخرية والتنكيل بتغريدة لا تهدد مستقبل المنطقة ولا تغير موازين القوى. تغريدة بسيطة ليس فيها إساءة لأحد أو لمقدس أو خروج عن الأدب. تغريدة عجيبة دفعت الناس لترك أشغالهم والتفرغ للتعليق عليها والسخرية من صاحبها: الأستاذ الجامعي الذي كان مشغولا طوال العام بالكتابة عن النهود المستديرة والقوام الممشوق والرموش القاتلة، ويتحفنا في صفحته بأنواع الأحذية النسائية وحمالات الصدر، ترك أمر النساء وخرج في المظاهرة. حمالة الحطب أم الدواعش والكرب، تركت المطبخ وخرجت في المظاهرة. الشاب المكبوت ترك الفازلين جانبا وخرج في المظاهرة. راعي الغنم الطيب استودع غنمه عند الله وخرج في المظاهرة. هذا يعني أنه ماذا؟ .. أن بإمكان اليمنيين أن يتفقوا على شيء!.
يا ما انت كريم يا رب. أخيرا با نتوحد يا صباح؟!. ما دام اجتمع اليمنيون على تغريدة فبإمكانهم أن يجتمعوا على مشروع وطني واحد!. هانت. هاااانت.. بس يا خوفي تكون هذه المظاهرة مجرد تعبير عن الكبت والاحتقان لدى الناس يا صباح. مش ملاحظة يا صباح أن الناس أصبحوا محتقنين يبحثون عن مأتم للطم والنحيب؟ يبحثون عن أي شيء يحطمونه بأيديهم وأسنانهم؟ عن جدار يضربون فيه رؤوسهم؟. عن عدو يقطعونه إربا إربا؟. والمتدينون يا صباح.. ألا تلاحظين أنهم أصبحوا أكثر سوادا وغلا وسفها مع مخالفيهم؟. من أين جاء هذا الجيل السفيه من المتدينين؟!. يخيل إلي أنه ثمرة انشغال آبائهم بخدمة الناس عن تربيتهم. كان الأب الصالح والأم الطيبة يذهبون لخدمه الناس والأعمال الصالحة ويتركون أولادهم في الشارع. والشارع خطر يا صباح على الأطفال.. الشارع خطر جدا.. وهذه هي النتيجة.. احتقان!. لا عاد ينفع معه بسباس ولا ثوم!.
لكن ما هذه التغريدة العجيبة التي أنطقت الأخرس وأخرجت الحي من الميت في الفيس بوك؟. ولماذا أثارت كل هذا الحنق؟.دعيني أشرح لك الأمر.. بالأمس توفي الدكتور محمد شحرور، صاحب مذهب خاص ومثير للجدل في فهم القرآن الكريم. وبهذه المناسبة رأى صاحب التغريدة العجيبة أن يكتب سلسلة تغريدات تبين أمرين: الأول المآخذ الأساسية على مذهب شحرور ومنهجه، في إطار الجدل المعرفي مع فكر الرجل. والآخر تفنيد شبهة أطلقها إخوان الحقد والكبت، تقول إن صاحب التغريدة يردد ما يقوله شحرور. وهي شبهة لا تستحق النقاش بسبب غبائها المفرط الدال على أنهم يقولون ما لا يعلمون. لولا أن بعض السذج والدهماء وأشباه المتعلمين يصدقها ويحمل صاحب التغريدة أخطاء شحرور وزلاته!. فأراد الكاتب - وهذا حقه الطبيعي - القول بأن التيار المسمى "قرآني" ليس مدرسة واحدة بل مدارس. كل مدرسة لها مبادؤها وقواعدها ودوافعها المختلفة. ومن ثم فليس من الصواب ولا من العدل محاسبة هذه المدرسة بأخطاء الأخرى.
وقال المسكين ما معناه: مثلما أن هناك مدرسة قرآنية سورية يمثلها فكر شحرو، ومدرسة قرآنية مصرية يمثلها طرح صبحي منصور، هناك أيضا مدرسة يمنية تمثلها جهود كاتب التغريدة في بناء منهج خاص لفهم القرآن الكريم.. وعينك ما تشوف إلا النور كما يقول المصريون.. لقد أثارت كلمة مدرسة حنقا واسعاً لدى شعب الله التعبان، وكأنها جرحتهم في كرامتهم!.. أهذا أنت؟.. أأنت قلت هذا للناس؟!. لا أصدق!.. لا، صدق يا حبيبي صدق.. لكن وانت بتصدق حاول تفهم الملاحظات الآتية:
أولا: صاحب التغريدة لم يقل إنه مدرسة كما فهمت وروجت، بل قال إنه وضع أسس مدرسة قرآنية خاصة لفهم القرآن تختلف عن مثيلاتها. وهذه دعوى تحاكم بمنطق العلم لا بمنطق عيال السوق.
ثانيا: كلمة مدرسة ليست للمديح والافتخار كما تظن بحسب ثقافتك الشعبية. هذه كلمة لها دلالة موضوعية، تعني مجموعة قواعد ومقولات تنظم عملية فهم الظاهرة الدينية أو الخطاب الديني. أما الدلالة الشعبية التي في رأسك فلا يقولها عاقل عن نفسه. والكاتب يردد هذه الكلمة بصورة عفوية لكثرة ما ألفها في الوسط المعرفي، وكتب النقد الأدبي والفلسفي، دون أن يلقي بالا لظلالها الشعبية.
ثالثا: وضع قواعد لمدرسة نقدية أو فكرية لا يشترط فيه أن يكون الواضع من مشاهير العلماء والكتاب كما تتوهم، ولا أن يكون له كتب تملأ المكتبات، بل لا يشترط أن يكتب مقالا واحدا في الموضوع!.. أعرف أنك تجهل مثل هذه الحقائق، ويزعجك أن يتهمك الكاتب بالجهل، ولا يزعجك أن تتهم من هو أعلم منك بالجهل والغرور!. لذلك دعني أثبت الحقيقة الماضية بهذه الشواهد المختصرة:
هل تعرف إبراهيم النظام؟.. على الأرجح لا تعرفه.. هذا مفكر إسلامي قديم كانت له آراء غريبة في زمنه، لكن الجمهور لم يتقبلها، فأدانه وسخر منه وأحرق كتبه المحدودة فلم يصلنا منها شيء. ولم يبق من آثاره سوى ما نقله عنه تلميذه الجاحظ وخصومه الناقدين الناقمين. اليوم إبراهيم النظام يعد عند بعض مؤرخي الفيزياء الحديثة رائدا في بعض مقولاتها!. وهو أحد أشهر القرآنيين القدامى. قال عنه تلميذه (الوفي) الجاحظ: إنه رجل الألف عام!. فعل ذلك كله في سن مبكرة. كان النظام حسب ما يقول المؤرخون صاحب مدرسة في الفكر المعتزلي.. ما الذي صنعه النظام سوى أنه جاء بفكر مختلف ونوعي؟!. لا أحد قال إنه أعلم أهل زمانه أو من أعلمهم. لكن الجميع اتفق على أنه صاحب مدرسة!.
وخذ هذا المثال الحديث: فريدناند دي سويسير، أبو علم اللغة الحديث الذي أحدث ثورة في مجال المعرفة بنظرية البنيوية. كان أستاذاً مغمورا - إلى حد ما - لم يكتب عن البنيوية في حياته مقالا واحدا فما بالك بكتاب. وكل الذي ألف من الكتب كتابان أو ثلاثة في موضوعات أخرى. لكنه كان يلقي محاضراته عن البنيوية لطلابه في الجامعة، دون أن يطلق عليها اسم البنيوية حتى!. وبعد وفاته قرر تلاميذه (الأوفياء) أن يجمعوا هذه المحاضرات ويصدرونها في كتاب واحد. وكان الكتاب الذي صنع المدرسة البنيوية!. والشواهد كثيرة لا تحصى عن شباب في سن العشرين صنعوا مدارس في النقد والأدب والفلسفة.
الكلام طويل يا صباح، والقارئ ملول، والفكرة لم تكتمل بعد.. وللحديث بقية.
*نقلا عن صفحة الكتب من الفيسبوك