منذ سنوات كنت متابعًا شغوفًا لكل ما ينشر في الصحف، أول ما أفتح عيني أخرج لمكتبة تقع في نفس العمارة التي أسكن فيها، أطلع على كل عناوين الصحف وغالبًا أكون أول زبون يفتح له صاحب المكتبة حزم الصحف، أقضي ساعة في الإطلاع على كل ما نشر، وأشتري صحيفتي المفضلة وأغادر، ثم أعود في الظهيرة لقراءة المواضيع الأخرى التي شدتني في أي صحيفة، أفعل ذلك وأنا أشعر بالحرج من صاحب المكتبة.
مع الأيام نشأت بيني وبين صاحب المكتبة صداقة قوية وكان يثق بي ويترك لي المكتبة لأساعده في البيع وأجدها فرصة لقراءة كل شيء أرغب به، خصوصًا أني لم أكن أستطع شراء كل ما أتمنى شراءه من المجلات والصحف.
هذه المقدمة ليست مهمة، وما وددت قوله لكم هو إن إحدى المفارقات الصحفية الغريبة التي كانت تصدمني ولا أجد تفسيرًا مقنعًا لها، أن هناك صحيفتين: الأولى والشارع، رئيس تحريرهما هو نفس الشخص ويختلف خطاب كل واحدة منهن بشكل واضح، كانت الشارع أكثر حفاظًا على طابعها اليساري فيما الأولى تبدو نسخة من صحيفة "المسيرة" حاليًا، كنت أقول في نفسي إما أن رئيس التحرير مشطور نصفين أو أنه "طالب الله" يبحث عن مصروف لأولاده.
أسقطت مليشيا الحوثي صنعاء وأغلقت كثير من الصحف أبوابها بالتدريج وبعضها أغلق بالقوة، ما عدا صحيفتي الشارع والأولى، استمرت بالصدور حتى بعد شهور من قيام عاصفة الحزم، كانت تتبنى خطابًا في ظاهره قيم حداثية تؤمن بفكرة الدولة والجمهورية والنظام والقانون وفي باطنه نكهة مليشاوية تخدم العمائم الإمامية وتسوّق لها بطريقة غير مباشرة.
مع الأيام عرفت عن نائف حسان أكثر، ظل الرجل صامتًا في صنعاء، وتوقفت صحيفته عن الصدور بعد أن صارت المليشيا الحوثية متحكمة بالمشهد ولم تعد بحاجة لخدماته التي يقدمها لها، ولا هي مضطرة لخطابه الدبلوماسي الذي يخدمها بلغة فيها شيء من المواربة والتقية الصحفية التي يجيدها نائف.
هذا الصحفي نفسه، والصحيفة نفسها، الذي تواطأ مع مليشيا الشمال بالأمس، انتقل للضفة الأخرى للعمل مع جهة مماثلة ينطبق عليها نفس التعريف. لقد صار يكتب عن مليشيا الشمال بغضب لكنه لم ينطق بكلمة ضد المليشيا المتمردة على الدولة في الجنوب، ومثلما لعب دورًا ناعمًا في التسويغ لسقوط الدولة بالأمس هو اليوم في مهمة مماثلة لضرب صورة الجيش في تعز.
والأمر لا علاقة له بالعمل المهني، ولا بمعالجة اختلالات المؤسسة العسكرية، بقدر ما يهدف لشيطنة الجيش ونزع الصفة الوطنية عنه تمهيدا لتبرير أي حركة تمرد ضده تحت لافتة " هذا جيش الإصلاح" تمامًا كما كان خطاب ذات الصحيفة تجاه جيش الفرقة وعلي محسن والقوى التقيدية، إبان إسقاط المليشيا الحوثية للعاصمة صنعاء.
على كل حال، الرجل مسكون بنفس عقد الثأرات القديمة وما يزال في ضلاله التليد، مشطور لنصفين، يدعي انتسابه لقيم الحياة الحديثة وانتماءه لقيم الدولة لكنه لا يكف العمل ضدها ولو أنه ذاق جحيم اسقاط الدولة فسيظل يكرر نفس الشغل وبنفس الطابع ونفس الأداة والدور وتلك خطيئته الكبرى ولعنته الأزلية ولا أظنه يتخلص منها أو يتوب.
صحافة بلا شرف، لو أنها كانت نزيهة لما سمحت لها المليشيا بمعاودة الظهور، ولو أنها مليشيا تحترم الصحافة الحرة، لسمحت لبقية الصحف بالعمل كما سمحت لصحيفة الشارع. هذه صحافة صديقة للمليشيا وهذا كاف ليبصق عليها المرء ويستخدمها لفافة للخبز أكثر من كونها نافذة للوعي تحترم جمهورها وتدافع عن حلمهم بدولة مستقرة.