ما الذي يريده النظام العربي؟ ما الذي يريد إثباته ونحن نراه يهرول، حسب تعبير نزار قباني، نحو الصهاينة؟
نحن نعيش منذ زمن طويل عصر أنظمة هرمة عاشت سنوات طويلة، كلما تحدثتْ لنا عن المستقبل ووعدتنا به مضت بنا إلى الماضي وأغرقتنا فيه. وإذا حدّقنا جيدا فيما تحقق في ظلها على مستوى فتح الشوارع وإقامة الأبنية، وازدياد عدد المدارس والجامعات، سنجد تعليما فارغا من محتواه، وقدرة فائقة على تقسيط الجهل، لكي يحظى به أبناؤنا على مدى سنوات وسنوات في المدرسة والجامعة، كي لا يقال إنهم حصلوا عليه في سنوات أقل في مدننا وقرانا.
لم تستطع هذه الأنظمة، مجتمعة أو متفرقة، أن تخلق بيئة علمية حقيقية، تستوعب أيا من شاباتنا وشبابنا الذين استطاعوا الإفلات بأعجوبة من استراتيجيات التجهيل، هؤلاء الشباب الذي تناديهم مواسم الهجرة إلى كل مكان في هذا العالم يستطيعون أن يفردوا في سمائه أجنحتهم، ويطلقوا فيه طاقاتهم الحبيسة وحريتهم التي قيِّدت طويلا، ليعثروا هناك على ذواته، دون أن تفارق الدمعة أعينهم من أجل أوطان لم تتقن سوى محاصرتهم وهي تبذل الكثير من الجهد لتحجيم العقل ووأد الأحلام.
كان يمكن أن تكون أوطاننا أفضل بعلم أبنائها وكرامة هذه الشعوب، التي كلما نظرت للشمس انقضّت عليها كل شياطين الأرض، تشيطن خيرة أبنائها وأجمل هتافاتها وأعذب أغنياتها من أجل الحرية.
الواقع المزري الذي رسّخته الأنظمة العربية على مدى عقود طويلة لا يؤهل هذه الشعوب لأن تكون ندا لذلك العدو الذي تحالفه علنا.
أنظمة لم يبق لها في الحقيقة سوى الموت، الذي بلغته وهي تدافع عن حقها في الشيخوخة، منذ اللحظة التي تسلّمت فيها زمام الأمور ساحقة البلاد والعباد.
ما الذي يمكن أن تمنحه هذه الأنظمة لشعوبها وهي تعانق القتلة وتشاركهم الطعام والمال والثروات وتمنحهم مستقبل شعوبها، في اللحظة التي نرى فيها هذه الأنظمة تضع قدما في القبر وقدما في المذلة؟
كل ما يحدث الآن هو أن هذه الأنظمة تقدّم شعوبَها فريسة سهلة للصهيونية، التي تصعد في كل يوم سلم العنصرية والانغلاق وادّعاء التفوق العرقي أكثر فأكثر، لأن الواقع المزري الذي رسّخته الأنظمة على مدى عقود طويلة لا يؤهل هذه الشعوب لأن تكون ندا لذلك العدو الذي تحالفه علنا، بعد أن كانت تلتقيه تحت الطاولات وفي الغرف المعتمة لفنادق العواصم الكبيرة والصغيرة. ومن المفيد أن نتساءل هنا: ما الذي جناه الأردن، وما الذي جنتْه مصر من معاهدتَي سلامهما مع الكيان الصهيوني؟
صحيح أن ما نراه اليوم ليس مفاجئا، فهو قديم، مهّد لنكبة فلسطين، وحرس آثار هذه النكبة كي تظل باقية، وسحَقَ كل محاولة للخروج منها. لكن هذه الأنظمة التي استمرت، وهي صانعة النكبة، أو مساهمة أساسية فيها منذ الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، لا تدرك أنها تمهّد لنكبات جديدة ستجتاح شعوبها؛ قد لا يحدث ذلك عبر احتلال مباشر مثل ذلك الذي يربض على صدر حيفا ويافا ورام الله، لكنه احتلال توأم لذلك الاحتلال.
هنا الصهيونية الطليقة، وأمريكا النّهمة التي لا تشبع، والتي لا يتورّع رئيسها عن أن يُذل من يريد، ويطالب بما يُريد، ويُجاهر بقدرته على خلع من يريد، والتفضّل بإبقاء من يريد، وشطب من يريد، حسب شروطه.
يقوم الحلف الإنساني الحقيقي، في جوهره ومعناه، على مبادئ التكافؤ والمصلحة المشتركة والاتحاد ضد أي عدو خارجي يهدّد طرفيه أو أحدهما. يقوم على النهوض وتوحيد القوى من أجل التطوّر وصون الحياة، لكن هذا الحلف الذي تهرول له أنظمة عـــربية كثيــــرة اليوم، قائم على اللاتكافؤ وضد مصلحة شعوبنا، قائم على منح كل ما هو حق لهذه الشعوب لأعداء هذه الشعوب، وهي تقدم مستقبل أبنائها على طبق من ذهب لأعتى قوى العالم تطرّفا وعنصرية وعنجهية؛ قوى ظالمة خلعت أقنعتها حين تبين لها أن لا وجوه لهذه الأنظمة أصلا.
قد يُخدع البعض أو يَخدع نفسه ليقول إن ما يحدث هو الحلّ الذي لا بدّ منه، للتخفّف من فلسطين والفلسطينيين، وقد آن الأوان لنا لأن نحمي مصالحنا وننزل عن أكتافنا وأكتاف أوطاننا عبء هذه القضية واستحقاقاتها! لكن ما يحدث أن كل ما يفعلونه هو أنهم يستدعون القوة الصهيونية الغاشمة، لكي تعيث في بلادهم فسادا ونهبا وتدميرا وسيطرة، دون حاجة هذه الصهيونية إلى الدبابات والدوريات والطائرات والجنود لاحتلال هذه الأوطان، فالفلسطينيون أثبتوا لهذا العدو أنه لا يستطيع أن يحكم بلادا أخــــرى، مـــرة أخرى، بقوته العسكرية، وهم بذلك (الفلسطينيون) ما كانوا يدافعون عن وطنهم وحسب، طوال مئة عام مضت، بل كانوا يدافعون عن حق كل طفل في كل عاصمة عربية لكي يذهب آمنا إلى مدرسته وبلا حواجز تمنعه من الوصول إلى غرفة صفّه وباحة مدرسته، ويدافعون عن حقّ قلب كل أم ليظل هادئا، لأن ابنها لن يعود إليها في كفن، كما يعود أبناء فلسطين إلى أمهاتهم كل يوم.
لن تموت فلسطين إذا ما احتضنتم أعداءها، كل ما تفعلونه أنكم تطلقون النار على رؤوس أوطانكم وشعوبكم وأنتم تهرولون لاحتضان الصهيونية، التي ورثت عن الفاشيات الكبرى كل ما فيها من قبح.
وبعد:
هذهِ الأرضُ لم تتغيَّرْ كثيرا
هنا أفقٌ.. وعواصمُ.. سجنٌ.. هنا مئذنةْ
وهنا جرسٌ.. حنْطةٌ في الوجوهِ.. هنا جثثٌ
وجنودٌ على شرفاتِ الدّقائقِ والأمكنةْ
وهنا طفلةٌ تستفزُّ الزِّقاقَ
وتمضي إلى غدها طاعنةْ
وهنا قاتلٌ كُلّما مسحَ الدَّمَ عن قدميهِ
مضى لاحتفالٍ وفي جيبِ سُترتهِ سوسنةْ!