ذكريات فنان
السبت, 30 يونيو, 2018 - 10:27 مساءً

الزمن: بداية السبعينات بعد ظهر يوم شتوي ساحر عابق بنسيم البحر.

المكان: مدينة التواهي- مبنى التلفزيون القديم فوق الربوة المطلة على ميناء التواهي.

الحدث: تسجيل بضعة أغاني للفنان محمد صالح عزّاني.
 
إعتاد أخي شكيب أن يصطحبني أنا و أخي الأصغر عارف إلى مبنى التلفزيون كلما ذهب هناك، كان مؤمناً بأننا نمتلك مواهباً مبكرة في الرسم و العزف و أن تشجيعنا على خوض تجارب جريئة في تلك الأعمار الصغيرة سيكون له شأنا كبيراً في مستقبلنا كفنانين - كان يخطط لنا هذا ونحن مانزال في المدرسة الإبتدائية!
 
كنت أساعد أخي شكيب في الرسم والديكور، شكيب لم يكن عازفاً عبقريا على الكمان و بقية الآلات الموسيقية فحسب، بل كان موهوباً في الرسم و الخط و تصميم ديكورات في غاية البساطة و الجمال مستخدماً اللونين الأبيض والأسود بدرجاتهما، لم يكن التلفزيون ملوناً بعد في تلك الفترة، و كنت أدهش أخي شكيب برسم مناظر بحرية خلابة مستخدما لونين لا أكثر و كان يبدو السرور على وجهه المكتنز المزين بتلك السكسوكة التي صارت علامة مميزة لشخصيته الفنية آنذاك كلما أنتهيت من تنفيذ أحد تلك المناظر على القماش المشدود!
 
على الجانب الآخر كان هناك أخي الأصغر عارف الذي كان يعزف على جميع الآلات الموسيقية بما فيها آلة الكمان التي اجتمع مع شكيب في حبها حد الجنون، و أثناء ذلك العصر الجميل كان الصبي الصغيرعارف يأخذ مكانه بين فرقة ( الأنامل الذهبية ) كعازف كمان وكان يبدو بشعر كث و بفم صغير يلوّك لبانة لم يتنبه لها المخرج الذي انشغل مع بقية طاقم الاستديو بتجهيز تسجيل الأغنية الأولى للفنان محمد صالح عزاني!
 
.. إذاً هذا هو الفنان الرائع بشحمه و لحمه أمامي و أنا الذي قد رأيت بضعة أغاني مسجلة له في نعومة أظفاري!..
 
لكني أستطعت أن ألاحظ شيئاً غريباً يحدث في الإستديو ذلك اليوم رغم صغر سني و قلة خبرتي بالحياة: العزّاني كان يبتسم طوال الوقت بينما كان يمضغ ( التمبل ) و في تلك الأثناء كان شكيب يربط له الكرافتة ويقوم بإلباسه جاكتا كأنه يلبس طفلاً صغيراً!
 
كان تسجيل الأغاني في تلك الحقبة يجب أن يتم في جلسة واحدة، و إن حدث خطأ ما أثناء التسجيل فيجب إعادة الأغنية من البداية أو من بداية المقطع و يتم المونتاج فيما بعد يدوياً!
 
عرفت فيما بعد أن الفنان محمد صالح عزّاني لقي مصرعه على يد زوجته في حادث مؤلم للغاية يتذكره كل من عاش تلك الفترة المضطربة في حياة الفنان الجميل و الموهوب!
 
قتل الرجل و هو في عز شبابه بعد أن أصيب باضطراب نفسي كبير لم تنتبه له حكومة الرفاق آنذاك أو توليه أدنى اهتمام و تلك حقيقة مؤلمة أخرى عشت بعض تفاصيلها عندما هاجم المرض أخي شكيب الذي مات جراء إهمال مشابه بسبب مضاعفات مرض السكر!
 
في ذلك اليوم في الإستديو .. رغم أن العزّاني كان يمر بأوقات نفسية عصيبة إلا أنه غنى كما لم يغن  من قبل و لم يحتج المخرج إلى إعادة تصوير الأغاني الثلاث - حسبما أتذكر- و إذا رأيتم تلك الأغاني على اليوتيوب ستعرفون القصة الكاملة لكواليسها إذا دققتم و أمعنتم النظر في تلك التفاصيل التي عشتها مراقباً بعيون صغيرة مندهشة خلف كاميرات التصوير..!
 
الفنان الجميل محمد صالح عزّاني
أقلام رصاص ( أبيض و أسود! )

*نقلا من صفحة الكاتب بالفيسبوك
 

التعليقات