يأتي تغيير مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ، وتعيين البريطاني مارتن غريفيث خلفاً له، إقراراً من المجتمع الدولي، ولو متأخرا، بحالة الفشل المركب التي حكمت المسار التفاوضي اليمني عامين، وإدراكا منه بأن فرص استئناف المفاوضات السياسية بين الفرقاء اليمنيين وصلت إلى طريق مسدود، بعد تحوّل ولد الشيخ نفسه، في الأشهر الأخيرة، إلى موضع خلاف، إذ رفضت جماعة الحوثي التعاطي معه وسيطاً، بعد محاولة مسلحين تابعين لها اغتياله في صنعاء، في يوليو/تموز الماضي، وفي حين لم تسعَ الأمم المتحدة إلى مراجعة إدارتها الملف اليمني، بل اكتفت، كعادتها، بمراضاة أطراف الصراع وحلفائهم الإقليميين، سواء بتعيينها نائبا لولد الشيخ في صنعاء للقاء الحوثيين، أو بنزولها عند رغبة العربية السعودية، قائدة التدخل العسكري في اليمن، بإزاحة ممثل مفوضية حقوق الإنسان في اليمن، جورج أبو الزلف، في وقت سابق، وكذا منسق الشؤون الإنسانية في اليمن، جيمي ما كغولدريك، في يناير/كانون الثاني الماضي، وهو الذي اتهمته السعودية بالانحياز للحوثيين على خلفية إدانته المتكررة مقتل مدنيين يمنيين بغارات التحالف العربي، لتتضافر عوامل الفشل، وتصب في النهاية في تعطيل مهام ولد الشيخ في اليمن.
قصور مقاربة الأمم المتحدة للحرب في اليمن، وتحوّلها إلى محل تجاذبات بين أطراف الصراع اليمنية والإقليمية، كان نتيجة تراكم اختلال آليتها الأممية في اليمن منذ ولاية المبعوث الأممي الأسبق، جمال بن عمر، وحتى ولاية ولد الشيخ، إذ أن الخلل في الإدارات المتتابعة للمبعوثين الأمميين إلى اليمن ناجم عن عدم إدراك الأمم المتحدة جذر المشكلة اليمنية، بما فيها تعاطيها مع أطراف الصراع اليمنية والاقليمية كجزء من الحل السياسي، إذ كيف يقر المبعوثون المتعاقبون إجراءات الأمر الواقع التي قامت بها القوى اليمنية والإقليمية المتغلبة مدخلا للحل السياسي، وفرضه على اليمنيين، بدءا بجمال بن عمر الذي كيّف انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية أمرا واقعا، ما أدى إلى أن تزيحه السعودية، وانتهاء بولد الشيخ الذي بنى مقاربته الملف اليمني على قراءة اعتباطية، تخدم مصالح فرقاء الحرب.
وذهب بعيداً في تكييف الأمر الواقع، بعد مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح، إذ تعاطى مع حزب المؤتمر الشعبي باعتباره طرفا في تحالف الانقلاب إلى جانب الحوثيين؛ على الرغم من التحفظات على أداء ولد الشيخ، بما فيها مبادرته التي كانت ترجمة لمصالح أطراف الصراع اليمنية والإقليمية، فإن ولد الشيخ لا يتحمل وحده مسؤولية فشل المسار السياسي في اليمن، إذ ظل أداؤه محكوماً بحدة الاستقطابات الإقليمية التي صاحبت اندلاع الحرب في اليمن، بما فيها تكريس الوصايتين، السعودية والإماراتية، على الملف اليمني، فيما قوّض تولي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، السلطة، فرص استئناف المسار السياسي، إذ غذّى الصراع السعودي - الإيراني في المنطقة، وتحول اليمن ساحة رئيسة لهذا الصراع، الأمر الذي انعكس بحدّة على الساحة اليمنية، وتمثل في رفض أطراف الصراع اليمنية والإقليمية الخيار السياسي، وإصرارها على حسم الحرب في اليمن عسكرياً.
قد يشكل تعيين مارتن غريفيث خلفا لولد الشيخ مرحلة جديدة في الملف التفاوضي اليمني، فيما يتفاءل بعضهم بقدرة المبعوث الجديد على خلخلة الجمود السياسي، والدفع بعملية التفاوض إلى الأمام، حيث يرون أن تعيين مبعوث بريطاني سيؤدي إلى إشراك القوى الدولية المؤثرة في اليمن، كبريطانيا، لإيجاد صيغة توافقية للحل السياسي للأزمة اليمنية، ما يمنح المبعوث الجديد تفوقاً على سلفه ولد الشيخ. كما يعول هؤلاء على الحراك الدبلوماسي في مسقط المصاحب لبدء المبعوث الأممي الجديد مهامه في اليمن، ومشاركة وفد لجماعة الحوثي في هذه المشاورات، إلا أن رفع سقف التوقعات حيال قدرة هذا المبعوث على اختراق مواقف أطراف الصراع اليمنية وحلفائهم الإقليميين يرتبط بدرجةٍ رئيسيةٍ بتعقيدات الحرب في اليمن، إضافة إلى استمرار الصراع السعودي- الإيراني في المنطقة، فضلاً عن ديناميكية التحالفات السياسية في اليمن التي تفرض، من وقت إلى آخر، ولادة لاعبين سياسيين محليين وتواري آخرين. وبالتالي، ما زالت تعقيدات الملف اليمني التي ظلت عائقاً لولد الشيخ في مهمته في اليمن قائمة.
يصطدم تقييم فرص المبعوث الأممي الجديد في تحريك الملف التفاوضي بافتقاره لتركة سياسية خلّفها سلفه، للانطلاق منها في استئناف المفاوضات، الأمر الذي سيجعل المبعوث الجديد محكوماً برؤية الدول المتدخلة في اليمن، وحلفائها الدوليين، حيال طبيعة الحل السياسي للأزمة اليمنية، كما تشكل منعطفات الحرب التي دخلها اليمن، بعد مقتل صالح، تحديات حقيقية لإدارة المبعوث الأممي الجديد في اليمن، فعلى الرغم من تصاعد العمليات العسكرية على الأرض، وإحراز السعودية وقوات الشرعية انتصارات عسكرية في أكثر من جبهة، في مقابل تقهقر مليشيات الحوثي، فإن ذلك لم يؤثر كثيراً على المسار النهائي للحرب، خصوصا مع التشتت في معسكر التحالف، وحدة تنافس الأجندات السعودية - الإماراتية في جنوب اليمن، وتقويضها السلطة الشرعية، في حين أدى مقتل صالح إلى تحويل جماعة الحوثي إلى قوة وحيدة في معسكر الانقلاب، مخولةً في استئناف المفاوضات، فلا شيء يجبر جماعة الحوثي على الانخراط في المسار السياسي، فيما فرض واقع ما بعد صالح ولادة لاعبين سياسيين محليين جدد في أكثر من ضفة، ولا يمكن التكهن بشروطهم وخياراتهم في التسوية المقبلة، مثل بقايا حزب المؤتمر الشعبي الذين لا يعترفون بشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، والمجلس الانتقالي الذي فرضته الإمارات قوة ممثلة للجنوب بعد أحداث مدينة عدن أخيرا.
مبعوث أممي وراء آخر، ولا شيء في الأفق السياسي اليمني يحمل الأقوياء على الالتفات إلى معاناة اليمنيين، فيما تشكل الظروف الإنسانية القاهرة التي يعيشها معظم اليمنيين محفزاً لمن يمتلك أدنى حساسية إنسانية، للعمل على إيقاف الحرب في اليمن، ولا يحتاج فرقاء الصراع في اليمن وحلفاؤهم إلى مبعوث دولي جديد، يقنعهم بضرورة استئناف المسار السياسي لإنهاء معاناة اليمنيين، لكن فرقاء الصراع لا يبالون سوى بمصالحهم. وبالتالي، من الصعب إقناعهم بأرضية مشتركة للحوار، ناهيك عن اتفاقهم على إيجاد تسويةٍ سياسيةٍ تضمن لهم تمثيلاً سياسياً في السلطة، والأهم أن السعودية والإمارات، الدولتين المتغلبتين على اليمن، ومع ما تقوله رطانتهما الدبلوماسية بدعمهما المسار السياسي، وتأييدهما المبعوث الأممي الجديد، فإن استمرار الحرب الشاملة في اليمن، بما في ذلك حرب حلفاؤهم المحليون ضد بعضهم بعضا، يجعل من الفوضى الدائمة في اليمن خياراً مريحاً جداً لهم في الوقت الراهن.
*العربي الجديد