منذ خرجت الشعوب العربية للانتفاضة في وجوه الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، وتهاوت تلك الأنظمة العتيقة من تونس والى مصر ومن ثم ليبيا وبعدها اليمن، جاءت الأمم المتحدة بقناع "الحياد"، وابتكرت لعبة المبعوثين الأمميين للسلام في بلدان الربيع العربي، وقدمت نفسها كوسيط بين تلك الأنظمة البائدة والثورات التحررية بذريعة ضمان عدم اندلاع الحروب.
في الحقيقة هؤلاء المبعوثين الأمميين لم يكونوا سوى أدوات خفية للأمم المتحدة لحماية الأنظمة الديكتاتورية من السقوط والانهيار، فمصلحة تلك الدول الكبيرة كانت مرتبطة ومرهونة في بقاءها، وحتى أنهم يدركوا ماذا يعني تحرر الشعوب العربية، ونجاحهم في بناء دول قوية تمتلك سيادة واستقلال القرار الداخلي، وابعاد خطورة حصول الشعوب الحرية والديمقراطية الحقيقة وحدوث نهضة تنموية وحضارية واقتصادية وفكرية.
من خلال تتبع الأحداث ومساراتها في بلدان الربيع العربي "تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن" سوف نجد مهمة كل مبعوث أممي لأحدى هذه البلدان هي إيقاف عجلة ثورات التغيير، والحفاظ على الدولة العميقة لتلك الأنظمة، والبدء في رسم مخططات من تحت الطاولات لانطلاق الثورات المضادة، والعمل على انجاحها سوى بالانقلابات العسكرية، أو من خلال اشعال فتيل الحروب الاهلية والمذهبية والطائفية.
نتناول الملف اليمني كنموذج لما حدث منذ 2011 عقب انطلاق ثورة 11 فبراير، وكيف عملت الأمم المتحدة على فرملة عجلة التغيير من خلال مبعوثها الأول جمال بنعمر، والذي تم تغييره واستبداله بخلفه إسماعيل ولد الشيخ.
بنعمر لم يكن سوى خابور كبير اجاد عمله الخفي وراء الكواليس بامتياز عكس مهامه الرسمية الذي سقط فيه سقوط كبير، فقد كانت مواقفه الضبابية مثيرة للريبة والشكوك بالنسبة لثوار فبراير الذين لم يجدوا من الأمم المتحدة مواقف صريحة من نظام المخلوع صالح وجرائمه بحق الثوار، والتي سرعان ما اتضحت تلك المواقف بعد نجاح المؤتمر الحوار الوطني، وبدء مليشيات الحوثي حربهم الانقلابية ضد الدولة والمجتمع اليمني.
بداية اللعبة كانت عندما أشار بنعمر على الرئيس هادي والقوى السياسية، بضرورة مشاركة الحوثيين في مؤتمر الحوار الوطني، إلا أنه عندما أصبح الحوار على بعد خطوة من النجاح، بدأت مليشيات الحوثي حربها الانقلابية، ووقف بنعمر صامتا امام تحركات الجماعة، ولم يصدر عنه أي تنديد سوى البيانات الدبلوماسية الضبابية.
عندما كان الحوثيين الانقلابيين ينتشرون في شوارع العاصمة صنعاء، ويسيطرون على معسكرات ومؤسسات الدولة، لم يتضح موقف جمال بنعمر الذي كان يتواجد في مسقط رأس زعيم الجماعة في محافظة صعدة، ولم يعمل أي شيء سوى تصريح صحفي مقتضب عبر فيه عن بالغ قلقه من تفجير الوضع عسكريا، وبقي منتظرا حتى استكمال الحوثيين سيطرتهم على صنعاء، وحينها ظهر بمسودة اتفاق السلام والشراكة، وهو الاتفاق الذي مكن الحوثيين من القرار وإدارة مؤسسات الدولة.
الا انه عقب سيطرة الحوثيين على صنعاء امام انظار بنعمر، فقد قوبلت المواقف الضبابية للمبعوث الاممي بموجة سخط واسعة من اليمنيين الجمهوريين المناهضين للانقلاب، مما دفع بالأمم المتحدة الى استبداله بمبعوثها الثاني إسماعيل ولد الشيخ، ولكن الآخر لم يقدم أي جديد لليمن في خارطة مفاوضات السلام، وقام بدور مشبوه لا يختلف عن دور سلفه، حيث كانت أحاطاته في مجلس الأمن الدولي وبياناته وتصريحاته الإعلامية لا تتمتع بالحياد أو الشفافية أو الانصاف، حتى ان ولد الشيخ لم يسمي الأشياء بمسمياتها "انقلاب – شرعية" ولو لمرة واحدة، وكان ينظر للحرب في اليمن على أنها بين أطراف متنازعة.
لم يختلف ولد الشيخ عن سلفة بنعمر في ادواره ومهامه المشبوهة التي عمل عليها طيلة فترة تواجده كمبعوث للأمم المتحدة في اليمن، وعجز عن الزم الحوثيين بالاستجابة للقرار الدولي لمجلس الأمن 2216، أو اقناعهم بالعودة إلى طاولة الحوار وفق المرجعيات الثالث.
قرر إسماعيل ولد الشيخ أحمد عدم الاستمرار في منصبه بعد انتهاء ولايته أواخر الشهر المقبل، وبالمقابل كانت استجابة الأمم المتحدة سريعة لهذا القرار، مما يثبت الكثير من الشكوك عن حقيقة واهداف اللعبة الأممية الخفية في اليمن، وخصوصا ان مبعوثها إلى اليمن هذه المرة هو البريطاني مارتن غريفثتس، فجنسية المبعوث الثالث إلى اليمن والاستجابة السريعة تكشف كم أن اللعبة تسير وفق مخطط منظم ومدروس، وأن المرحلة القادمة ستكون مختلفة عما كانت عليه اثناء فترة بنعمر وولد الشيخ.
نحن كيمنيين مؤيدين للشرعية لم نعد نأمل من الأمم المتحدة أو مبعوثيها إلى اليمن أن تقدم أي جديد، فكل توجهات الأمم تصب في معسكر الانقلابيين، ولكن امام مخاوفنا من قدوم البريطاني غريفثتس والعمل على فرملة المسار العسكري للجيش الوطني ومعركة تحرير العاصمة صنعاء، حيث ما نزال نثق في قدرة الشرعية والتحالف العربية بقيادة الشقيقة السعودية، على تحركهم الجاد من أجل القضاء على جماعة الحوثي الانقلابية وإسقاط المشروع الإيراني في اليمن.