صعدت قضية اختراق المجال الجوي القطري من قِبل سلاح الجو الإماراتي على سطح الأزمة الخليجية، وقد تكررت مرتين حسب البيان الرسمي القطري. والجغرافيا الإقليمية في ساحل الخليج العربي متداخلة جدا بسبب صغر مساحات الدول وحدودها المترابطة، وبالتالي كان يمكن أن يكون حدوث هذا الأمر ضمن التفاهمات الخليجية والإقليمية في العهد الماضي.
ثم جاءت قضية البيان المصوّر للشيخ عبد الله بن علي آل ثاني الذي أعلن فيه أنه تحت الاحتجاز في أبو ظبي، وأخطرُ الأمرِ إشارتُه إلى مخاوفه من تعرضه لأي أذى يوحي بتصفيته، وأن قطر بريئة من هذا العمل إن حصل.
وهذه الرسالة تحمل بُعداً سياسيا وقانونيا خطيراً جداً على أبو ظبي وعلى بقية دول المحور، وهو ما يَردُّ على التشكيك في البيان المصور أو على أي محاولة تأتي بعد هذا البيان، وعبد الله آل ثاني في عهدة دول المحور ولم يخرج بحريته منها.
ولذلك من المرجح أن تكون اتهامات أبو ظبي لسلاح الجو القطري -فيما بعد- بأنه طارد طائرة مدنية -وهو ما نفته الدوحة ومصادر أميركية عسكرية في المنطقة- محاولةً لدفع هذا الخنق القانوني والسياسي عنها، بعد أن تأزم وضع دول المحور وتوجّه الضوء إلى مسؤولية أبو ظبي في جر الرياض وقيادتها لهذا الواقع، الذي استنزف المنطقة دون تحقيق أي هدف موضوعي لأيٍّ من دول الخليج العربي.
لكن الواقع الحالي منذ اندلاع أزمة الخليج تغيّر كثيراً، فدول المحور أعلنت مواجهة قطر وحاصرت مجالها الجوي كلياً من سمائها السيادية، ومنعت وصول أي إمدادات إنسانية أو تجارية من خلالها، وصعّدت اللغة منذ 5 يونيو/حزيران 2017 وحتى الآن، بما فيها لغة التهديد الصريح لسيادتها وحدودها، والتبني الرسمي لتغيير نظام الحكم الذي ورد في تصريحات متعددة بثتها وسائل إعلام رسمية.
هذا الجو العاصف تزامن مع تأكيدات عديدة نُقلت عن مسؤولين أميركيين وخاصة وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وأعلن مضمونها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في المؤتمر الصحفي مع دونالد ترمب بواشنطن، وتفيد بأن نوايا العمل العسكري ضد قطر كانت قائمة لدى دول المحور.
والحقيقة أن اللغة المستخدمة وقطع الأرحام وشيطنة قطر منذ بداية الأزمة كانت لغة حرب، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك منذ أول الأزمة. وبالتالي فهذا التوغل الجوي العسكري -الذي تمثل الثواني فيه مساحة جغرافية مهمة تصل إلى مراكز حيوية، خاصة في ظل إصرار أبو ظبي والرياض على أن المطلوب هو استبدال نظام الحكم القطري- لا بد أن يؤخذ على محمل الجد، ولذلك وثّقت الدوحة هذا الاختراق وأعلنته.
وهنا يَستحضر المشهدُ المتوترُ تاريخَ اجتياح الكويت من قبل العراق، حيث تم رصد التحركات العسكرية العراقية تجاه الحدود، وأبلغت الكويت في حينه الوسيط بينهما الرئيس المصري حسني مبارك، وتم طي الخبر فلم يعلن حتى لا يُشكّل تحفيزاً وتوتيراً للنزاع. لكن ما جرى كان العكس، حيث كان الخبر التالي هو اجتياح الدبابات العراقية لحدود البلدين فجر يوم 2 أغسطس/آب 1990، وقصف مدارج الطيران الكويتي.
فهل كان هذا مؤشرا لخشية عمل مماثل؟ الحقيقة أننا لا نميل لهذا التقدير، وهو أن يتحول هذا التوتر العسكري الحالي إلى عودة نوايا الاجتياح، ففرص الاجتياح كانت أكبر في البدء، أما حالياً فقد تعقد الموقف كثيراً على دول المحور، إضافة إلى أن ترمب نفسه -الذي أعطى إشارة الاجتياح- هو من تراجع عنه بعد إعلان تفعيل الاتفاق التركي القطري.
لقد ضغطت المؤسسات -وخاصة البنتاغون- على ترمب، باعتبار أن أمر الاجتياح كان يعتمد على موافقة ترمب للرياض وأبو ظبي على تنفيذه خلال فترة قصيرة، في حين أن دخول تركيا سيعقّد الأمر كثيراً ويحرج البنتاغون.
وهو ما دفع ترمب للاتصال على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي هو الشريك الأساسي لحلف مناهضة قطر، واستبق ترمب بذلك مؤتمر القاهرةحينها الذي ضم وزراء خارجية دول المحور، وانعكس هذا الموقف على الجو العام للمؤتمر حين تم تلقي رسالة ترمب عن طريق السيسي، وصُرف النظر عن قرار الاجتياح.
ومنذ ذلك الحين؛ بدأت سيناريوهات مختلفة تشدد على تغيير النظام في قطر بعمل داخلي، يزعم انشقاقات في الأسرة الحاكمة بقيادة الشيخ عبد الله آل ثاني، أو صراعات قبلية، لكن ذلك كله اصطدم بالواقع المحلي لقطر المتحد مع أميرها.
ويتضح من ذلك أن هناك أزمة فراغ كبيرة في إدارة الموقف مع قطر، والأهم هو هذه الإشكالية التي لم تستطع دول المحور الخروج منها منذ التحول عن قرار العمل العسكري، وهو اضطراب يرصده المراقب الخليجي بسهولة.
وأهم ما يمكن الحديث عنه هنا هو أن المطالب التي اشترطت على قطر ليست مطالب ضد سيادتها فقط، وإنما هي شروط إنهاء حرب يقدمها طرف منتصر ومتمكن من الأرض، وهو ما لم يحصل.
ومنذ ذلك الحين؛ ركزت جهود أمير الكويت على محاولة إقناع دول المحور -وخاصة الرياض وأبو ظبي- بالنزول إلى الواقع السياسي، وبدء مفاوضات وحوار مع الدوحة عن الخلافات، وتسوية ما يمكن منها وترحيل ما لا يتم التوافق عليه، لكن دون جدوى.
ومن الواضح أن هناك اصطداما ضخما بجدار الأزمة لم تستطع دول المحور المناهضة لقطر تجاوزه، ويبقى تأثيرُ أبو ظبي على قرار الرياض أساسياً في هذا الاتجاه. وعليه فإن ما قامت به الدوحة كان توثيقا وإنذارا ضمنيا للمحيط الإقليمي والدولي بأي توترات قادمة، تبين قطر فيها ما رصدته من مقدمات على الأرض.
ولن يتحول ذلك إلى عمل عسكري واسع، بسبب تقديرات دولية وإقليمية ضد تكرار نموذج 1990، فالمصالح تختلف هنا غير أن التطور الجديد هو بدء تفاعل ملف الرئيس ترمب في واشنطن، واضطراب تصريحاته وسياساته، وتصادمها مع العملية السياسية الأميركية بكل مؤسساتها وحزبيها الكبيرين.
وتعزز الموقف بعدم أهليته وبدء أجواء إجراءات عزله، ودخول هذا الفصل السياسي على أزمة الخليج سيُربك كثيراً دولَ المحور التي اعتمدت على موقف شخص الرئيس، وصفقة أبو ظبي والرياض مع صهره كوشنير الذي بات ملفه يطفو على سطح الجدل الأميركي الداخلي.
ومجمل الموقف هو أنه ستزداد أسهم فريق المؤسسات في واشنطن الذي عارض مشروع استهداف قطر لحسابات مصالحه، ومفهوم الثقة الذي يسعى أن يحافظ عليه في الخليج حول قواعده وسياساته الدبلوماسية والعسكرية، والتي أضرت بوضع واشنطن بعد توريط ترمب في أزمة الخليج، خاصة أن المبالغ التي حصل عليها ترمب لن تعود للخزينة الخليجية التي أنفقتها؛ وقد يضغط على دول المحور لإنهاء الأزمة.
وقد تزامن ذلك مع تمسك قطر القوي بملف التقاضي الدولي، ليس في قضية الحدود والأجواء فقط، بل وفي ملفين حساسين للغاية:
الأول هو توجيه دعاوى قانونية دولية ضد التصريحات الصادرة من شخصيات رسمية من دول المحور -تؤكد أنها مكلفة بذلك- بدعوات اغتيال مباشر أو ضمني للمسؤولين القطريين الكبار. والثاني هو التبني العلني والرسمي لتفويج جماعات قبلية لأعمال قتالية وتجاوز للحدود، واستهداف عمق الدولة القطرية لتغيير نظام الحكم.
هذان الملفان -اللذان أعلنتهما الدوحة ضمن إطلاقها الملف القضائي الدولي- ساهما في توتر دول المحور. ورغم أن الدوحة ركزت حملتها الإعلامية على أبو ظبي صاحبة القرار والحملة الشرسة؛ فإن من تورّط في هذين الملفين كان السعودية، حيث كانت أبو ظبي أكثر حذراً فيما يدفع إعلامُها الرياضَ، وإن وُجد مستوى تورط لها.
ولذلك يعود السؤال مجدداً: هل أزمة استهداف قطر مبنية على الخلاف معها أم على ترتيب بيت الحكم السعودي، الذي لعبت أبو ظبي دوراً فيه كما يُعلن عن ذلك في بعض منصاتها؟
لكن الأمر المحيّر هو أن الحسم لصالح ولي العهد السعودي قد تم، وأن استمرار استخدام التصعيد ضد قطر لم يعد يخدم موقف ولي العهد في الداخل، وخاصة أن الدوحة أرسلت -في بداية الأزمة- ما يؤكد أنها لن تكون طرفاً في نزاعات أسرة الحكم، منذ أن أُقصي ولي العهد السعودي السابق.
فلماذا يُصرّ فريق ولي العهد الحالي على تطويل الأزمة التي تستنزفه؟ فقطر أمام تهديدها الوجودي فتحت إعلامها للرد على حملة الرياض، وقد أكملت الآن خطة تموضعها البديل لتجنب أي أزمة أخرى مع دول المحور، وابتعدت عن أي ارتباط مع الرياض عبر شبكة علاقات خليجية وإقليمية ودولية؛ فمن الذي عليه أن يقيّم خسائر الرياض ويوقفها: البيت السعودي أم الوكيل الحصري في أبو ظبي؟
*عن الجزيرة نت