في المرة الأولى، جئت من بيروت في عداد وفد فلسطيني وعربي يساري لحضور الإعلان عن حزب طليعي من طراز جديد، كانت تتحدث عنه عدن منذ وقت.
تلك زيارتي الأولى إلى عدن التي لم تعد، اليوم، عاصمة لشيء سوى الألم والتشبيح. لا وحدة ولا انفصال. الذاكرة مثقلةٌ بأحداث جسام. الصور القديمة تمحوها الصور الجديدة. وأيام النضال من أجل "حزب طليعي من طراز جديد" لا أثر لها في الشوارع، ولا في ذاكرة أبنائها الآن.
أتذكّر كيف كان فندق الهلال مكتظاً بالوفود العربية والأجنبية التي جاءت لحضور ولادة الحزب الطليعي، فيما نزل بعض رؤساء الوفود، الأعلى شأنا، في قصر الضيافة. كانت اليافطات والشعارات تملأ شوارع المدينة وساحتها. وحيثما وليت وجهك وجدت الشعار الذي انعقد في ظله المؤتمر "لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية، وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية". وكانت صور عبد الفتاح إسماعيل، نجم الماركسية الساطع، تطالعك في كل مكان، لكنها لم تكن صوراً مؤذية للعين. بيد أنها كانت، أيضاً (ولعل هذا هو المقصود منها) تحلُّ محل صورة أخرى: صورة سالم ربيع علي. فعدن كانت خارجة، تواً، من خضّةٍ سياسية كبيرة (... ستظل تعرفها بمعدل كل خمس سنين مرة) أطاحت الرئيس "ذا الجملة الثورية والنهج اليساري المغامر" وبعض أعوانه.
في خورمسكر وفي التواهي وفي كريتر والمعلا، أين طفت، بصحبة الكاتب السوري حيدر حيدر الذي جاء معنا من بيروت، رأيت مزقاً من صور الرئيس السابق لا تزال مثبتة بالجدران. كان سالمين (وهو الاسم الدارج لسالم ربيع علي) يظهر بنصف وجه مرةً وبعين واحدة مرةً أخرى.. أو بابتسامته التي تكشف عن أسنانه الأمامية المتراكبة. كان من الصعب إزالة صوره من الجدران تماماً. ومن حديث الناس اليومي. كان ظله يخيم على البلاد. ثمّة طعم مرَ لهذا العرس الماركسي الذي نحضره، فإعدام رئيس ليس أمراً هيناً. خصوصا إذا كان بشعبية "سالمين".
وفي "الساحة" الفلسطينية، التي جئت منها، أحدث إعدام "سالمين" وتصفية توجهه السياسي انقساما بين التنظيمين اليساريين الكبيرين: الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. عبرت عن التضارب في الموقف تغطية مجلتي الهدف والحرية للواقعة نفسها. فـ "الهدف" الناطقة بلسان الجبهة الشعبية كتبت بشيء من الاستياء والتساؤل عن جدوى تصفية الرفاق بعضهم بعضاً. وهو موقفٌ لا يعكس سوى سطح الغضب المسكوت عنه لجورج حبش ورفاقه حيال الفعلة، بينما برّرت "الحرية" الناطقة بلسان الجبهة الديمقراطية الإجراء بصفته ضربا لـ "الخط المغامر والطفولي" الذي كان يقوده سالمين، ويهدد مستقبل الثورة اليمنية وحركات التحرّر في شبه الجزيرة العربية.
ولعل الفارق في موقف المجلتين الفلسطينيتين هو الفارق بين خطين سياسيين واتجاهين فكريين (على أرض الماركسية اللينينية نفسها) تداخلا، عميقاً، في الحياة السياسية لليمن الجنوبي، فالجبهة الديمقراطية انشقّت، أصلاً، عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انبثقت بدورها من حركة القوميين العرب، وكذلك الأمر بالنسبة للجسم الأساسي من التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية في اليمن الذي كان هو أيضاً جزءا من حركة القوميين العرب، ثم استقل عنها. وفي خلفية موقف الأولى كانت تلوح الصين، وفي خلفية موقف الثانية كان يتراءى الاتحاد السوفييتي. وكانت الغلبة في النزال السياسي والأيديولوجي في نهاية المطاف، لموسكو.
وفي زيارتي الأولى، رأيته عن قرب. كان له حضور هادئ. لافت للنظر. كان يرتدي بنطالاً بني اللون وقميصاً سكرياً (بيج)، وينتعل حذاء جديداً عالي الكعب نسبياً (بقايا موضة تلك الأيام من أواخر السبعينات). لعله كان، يومذاك، في مستهل أربعيناته (هذا ما فكرت فيه حينها، ولكنه لم يكن قد بلغ الأربعين). ربما هذا، أيضاً، ما يشعر به شاب مثلي في الثلاثة والعشرين من العمر حيال من هم في الثلاثينات!
كان لعبد الفتاح إسماعيل وجه أليف تماماً. شعره ناعم مرجّل إلى الخلف، أسود داكن السواد، وشارباه أسودان. كان هادئاً يحرّك يديه ببطء. بعد نحو عامين من زعامته التي بدت، لوهلة، موضع إجماع، ستدور عليه الدوائر. وسيجد نفسه محاصراً من تكتلٍ يقوده "الجناح اليميني"، في الحزب الاشتراكي، ممثلا بوزير دفاعه علي عنتر. وسيكون محظوظاً أكثر من سالمين (مؤقتاً فقط) فيقدّم استقالته، ويغادر إلى موسكو. وسيكون على هؤلاء الذين أجبروه على الاستقالة أن يسعوا إليه مجدّداً ليعيدوه من موسكو إلى عدن، بعد أربع سنوات من منفاه، ليلاقي معهم مقتلة عظيمة.
شريط دام هو تاريخ عدن منذ الاستقلال. مذبحة تجرُّ مذبحةً في إطار صراع بائس على السلطة في أنأى بقعة عربية، وأضعفها اتصالا بالعصر، وربما أكثرها فقراً. كان عليّ أن اتذكّر هذا، وأنا أعود إلى اليمن بعد خمسة عشر عاماً من الغياب. طارت رؤوس عدن الكبيرة. رجال الكفاح المسلح في ردفان والضالع ودثينة وبيحان ويافع. وغيَّب الرفاق بعضهم بعضاً. ومن ظل حياً منهم، بعد دورات الدم المتعاقبة، عصفت به مأساة الوحدة ومهزلة الانفصال.
*عن العربي الجديد