قلنا إن من الخصائص النفسية للغة الشفاهية ميلها إلى المبالغة والمشاركة الوجدانية. ومن خصائصها الأسلوبية ميلها للإطناب والجمل القصيرة المعطوفة على بعضها. وهذه الخصائص تميز الخطاب الشفاهي عن الخطابين العلمي والقانوني كما عرفا في العصر الحديث. حيث يحرص هذان الأخيران على ترشيد لغتهما وتخليصها من الحشو والتكرار والاستعارات والمجاز والاكسسوارات اللغوية، وكل ما يهدف إلى التأثير على موقف السامع من المعلومة. فهدف اللغة العلمية واللغة القانونية، هو تشخيص الحقيقية كما هي، لا تزيينها للسامع بهدف إقناعه والتأثير عليه.
وهكذا يبدو واضحا أن اللغة الشفاهية هي الوسيلة الأساسية للخطاب الدعوي. أعني ذلك النوع من الخطاب الذي يشتغل على الدعوة إلى تبني فكرة أو مشروع أو قيمة. كما هو حال الجماعات الدينية والسياسية. ومن المعلوم أن الخطاب الدعوي هو الخطاب المسيطر على المجال العام في الحياة الإسلامية. أي أنه الخطاب الذي يشكل العقل والذائقة والنماذج الإدراكية للأفراد والمجتمعات الإسلامية. فما الذي يمكن أن يحدث للعقل الإسلامي إذا تشكل بواسطة الخطاب الدعوي واللغة الشفاهية؟.
دعونا نتتبع خطوات الخطاب الدعوي من بدايتها لننظر أين تذهب بنا.
في البداية يقوم الداعية – أو المصلح الاجتماعي - باصطفاء "قضية" أو "قيمة" ما، يرى أن المجتمع قد أهملها، وأن عملية الإصلاح تقتضي إحياءها وتسليط الضوء عليها. وبطبيعة الأمر سيجد نفسه في حالة جدل مع المجتمع أو بعض المعارضين، حول أهمية هذه القضية أو مدى صدقها. هذا الجدل والتشكيك بدوره سيدفع الداعية، إلى المبالغة في الاحتفاء بالقضية وتسليط الضوء عليها. وذلك بواسطة اللغة الخطابية ذات الطابع الشفاهي الميال للمبالغة والتأثير العاطفي. مما يعني أن القضية ستأخذ حجما غير حجمها الطبيعي. وأنها بمرور الوقت وإصرار الدعاية ستظل تكبر وتكبر حتى تغطي على حقائق أخرى بجانبها كانت مساوية لها أو أهم منها.
وعندما ينجح الداعية - في نهاية المطاف - في توطين قضيته وإقناع الناس بها، سيكتشف داعية آخر، في زمن آخر، أن تضخم هذه القضية قد أتى على حساب قضايا أخرى مهمة تستحق الإحياء والدعاية. وهكذا تبدأ رحلة جديدة في الدعوة إلى قضية قديمة، ستتحول بمرور الوقت إلى حالة تضخم جديدة، في عملية تشبه عقوبة سيزيف في الأسطور اليونانية. حيث حكمت عليه الآلهة أن يدحرج صخرة إلى قمة الجبل، وكلما وصل إلى القمة تدحرجت الصخرة إلى السفح، وهكذا بلا انقطاع في عذابات لا تنتهي.
بالنسبة للداعية الأول فإنه غالباً يكون مدركا لحجم القضية التي يدعو إليها، ومدركا لمجازية اللغة التي يستعملها، والمبالغات التي يوظفها في دعايته. لكنه في الغالب غير مدرك لحقيقة أن غالبية المستقبلين لا يتمتعون بنفس المستوى من الفهم ووضوح الصورة. وأن ما يقدمه على سبيل المجاز قد يؤخذ عند المستقبل على سبيل الحقيقة. وأن تضخيم صورة القضية التي يدعو إليها، بهدف إبرازها ولفت الانتباه إليها، قد يصبح هو الحجم الحقيقي للقضية عند المستمع. ويسهم بذلك في تزييف عقل المستقبل وتفخيخه.
من هنا نقول إن الخطاب الإسلامي الدعوي قد أسهم، منذ مئات السنين، في تزييف العقل الإسلامي. لأنه طوال هذه الفترة كان يقوم بعمليات اصطفاء لقضايا وموضوعات هي عبارة عن أجزاء في منظومات أكبر. ثم يقوم بنفخ هذه الأجزاء حتى تبدو أكبر من المنظومات التابعة لها. أو حتى تغّيب أجزاء أخرى في نفس المنظومة. هذا إلى جانب عمليات أخرى أسهمت في تزييف هذا العقل، كالأخبار المكذوبة التي ارتفعت إلى مستوى الأصول والموجهات، والمقولات التفسيرية الخاطئة للظواهر والأحداث والنصوص. وغياب التأصيل والترتيب الفلسفيين للقضايا المختلفة.
تبدو مشكلة تضخم القضايا واضحة تماما لأولئك الذين تبنوا منهجاً علمياً صارماً في دراستها والحكم عليها. عندما يدخلون في جدل مع تلك الفئة الشعبوية التي تبنت مقرراتها الأيديولوجية والثقافية بواسطة الخطاب الدعوي. ولهذا كنت دائما ما أقول إن الجدل في قضية دينية حساسة مع شخص أصولي، مستوعب لأصول الفقه والدين، أسهل بكثير من الجدل مع شخص أخذ ثقافته الدينية من أفواه الدعاة، حتى لو كان أستاذا جامعياً.
ولقد عجبت يوماً كيف أن أستاذاً جامعيا كبيراً، ومعروفا على مستوى الوطن العربي، قد وقف موقفاً متشدداً من مسألة في الفكر الديني كانت محل نقاش بيني وبين شيخ أزهري. في حين أن هذا الأزهري كان أكثر تفهما وتسامحاً منه. لكن هذا العجب يزول إذا عرفنا أن الشيخ الأزهري يعلم حجم المسألة المختلف عليها في الميزان الأصولي القانوني. ويعلم أن المقدمات التي قامت عليها ظنية، قابلة للأخذ والرد. في حين أن الأستاذ الجامعي الكبير قد أخذها، تقليداً لا دراسة، بنفس حجمها وقيمتها التي صورها له الخطاب الدعوي، لا حسب قيمتها ومكانتها في علم الأصول.
لقد كان الأزهري ينظر إلى المسألة من المنظور القانوني - وعلم الأصول ذو طبيعة قانونية - في حين أن الأستاذ الجامعي المتمدن كان ينظر إليها من منظور أيديولوجي زائف، لا يختلف عن المنظور الذي يتبناه عوام الناس. وهو المنظور الذي صنعه الخطاب الدعوي ذو اللغة الشفاهية، ولم يصنعه علم الأصول بلغته العلمية القانونية. ولك أن تتخيل حجم الجناية التي ارتكبها الخطاب الدعوي الشفاهي في العقل الإسلامي. مع الانتباه إلى أن لغة هذه المدونة أيضاً لا تخلو من الأسلوب الخطابي!.