هناك كلام كثير يمكن أن يقال في نقد حركة الإخوان المسلمين، أكثر الحركات الإسلامية حضوراً وتأثيراً في العالم، إلا أن أهم ما يمكن أخذه على هذه الجماعة -من وجهة نظري- هو موقفها السلبي من الاهتمامات النظرية ذات الطابع الفلسفي.
وهو الأمر الذي نتجت عنه سلسلة من التداعيات السيئة على أداء الجماعة نفسها وعلى المجتمعات التي تأثرت بنشاطها.
وكان من أبرز هذه التداعيات أن أصيبت الجماعة بالعقم الإبداعي، وهو بُعد ضروري جداً في نجاح أي حركة إصلاح سياسي واجتماعي. وأعني بالعقم الإبداعي عدم القدرة على إنتاج المبدعين والمبرزين في المجالات النظرية ذات الطابع الإنساني كالفكر والأدب والفلسفة والنقد وما شابه ذلك.
ولا نبالغ إذا قلنا أنه بعد مرور ثمانية وثمانين عاماً على ظهور الجماعة، لا نستطيع اليوم الإشارة إلى أديب أو مفكر أو ناقد أو فنان واحد من الطراز الأول نشأ في أحضان الجماعة. وكل الأسماء التي لمعت في تاريخها نشأت خارج أسوار الجماعة ثم وفدت إليها في وقت لاحق. منذ سيد قطب الليبرالي إلى منير شفيق اليساري.
ومن نتائج غياب هذا البعد عن اهتمام الجماعة أن أصيبت أيضاً بقصر نظر شديد في مجال الحركة والصراع الحضاري، أدى إلى وقوعها في مأساة "سيزيف الأسطورية". إن جريمة الإخوان في نظر خصومهم شبيه بجريمة سيزيف التي استحق عليها العقاب. تقول الأسطورة أن سيزيف قد استطاع أن يخدع إله الموت ثاناتوس، مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فعاقبه هذا الأخير بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت الحجر إلى الوادي، فيعود سيزيف لرفعها إلى القمة، وهكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.
أما جريمة الإخوان فهي محاولتهم استغفال حكام العالم الكبار، وبناء مشروع أمة كبيرة تتسيد العالم على غرار الأمة التي فتحت آسيا وأفريقيا وأوروبا قبل قرون. وقد أحسنوا الظن بالعالم كثيراً حين صرحوا بهذه الغايات. ولم يدركوا أنهم قد وضعوا انفسهم تحت المجهر، وأن العالم سيعاقبهم كما عوقب سيزيف. وهاهم كلما اقتربوا من القمة تدحرجوا إلى السجون.
لم يستطع الإخوان استغلال سنن التمكين الطبيعية، ولا تفادي سنن العذاب السيزيفي، لأنهم منذ البداية قطعوا مع الفلسفة. الفلسفة التي كانت ستمنحهم حدساً دقياً لما يجري ورؤية استراتيجية للعمل. لقد بذلوا جهوداً جبارة في العمل، وقدموا تضحيات جليلة طوال هذه العقود، لكنهم لم يصلوا. وكان بإمكانهم أن يختصروا نصف هذا الجهد والوقت لو أن الرؤية كانت واضحة والخطة دقيقة.
وأنى للرؤية أن تكون دقيقة وهي بلا فلسفة؟!. الفلسفة التي تعنى بالبحث عن جذور المشكلات وأصول الحقائق، الفلسفة التي تنظم العقل وتجعله أكثر قدرة على إدارة المشكلات ذات الطابع الحضاري.
ولعل في الظروف التاريخية لنشأة الجماعة ما يفسر هذا الموقف من الفلسفة والعلوم الإنسانية والنظرية. لقد نشأت الجماعة كرد فعل على سقوط الخلافة الإسلامية ولم تنشأ كرد فعل لسقوط الحضارة الإسلامية. وبين الأمرين بون بعيد.
اليوم يدرك الكثير من شباب الإخوان أن مشكلة الأمة تكمن في الاستبداد، وأن الحل يكمن في توطين الديمقراطية. لكن القليل منهم فقط يدرك أن توطين الديمقراطية ومقاومة الاستبداد يحتاج إلى حركة نقدية واسعة لسلوك الجماعة والمجتمع وتراثهما، وهو الأمر الذي يحتاج إلى مفكرين لا إلى قادة مخلصين وعسكر مطيعين في المنشط والمكره..!
* عن مدونات الجزيرة