حدثان يفرضان نفسيهما على التطورات التي تشهدها ساحة المواجهة في اليمن الآن. الأول، محوره صنعاء مكاناً لتفاعله وبلورة اتجاهه. والثاني محوره مدينة عدن منطلقاً لشرارته، ومركزاً لتفاعلاته وتأثيره. والحدثان في حالة نجاحهما يشكلان البيئة التي يتبلور فيها حل الأزمة اليمنية التي طال أمدها، والبداية الصالحة لرفع معاناة اليمنيين التي لا مثيل لها، ولم يشهدها اليمن طوال التاريخ.
شاءت الصدفة أن تتأزم العلاقة بين أطراف الحوار في الكويت، ويلجأ صالح وجماعة الحوثي لشن هجمات ارتجالية على جبهات المواجهة في صرواح والصبيحة وتعز وباب المندب، وكانت أشدها استهدافاً الجبهة التي يتشكل منها الخط الحدودي الفاصل بين اليمن والمملكة السعودية.
إزاء هذا التصعيد عاد طيران التحالف إلى تطبيق قواعد الاشتباك الأولى، وأوقفت رحلات الطائرات إلى مطار صنعاء، ما تسبب باستحالة عودة الوفد الحوثي الذي اتخذ مدينة مسقط العمانية مقراً له. فقد كان محتماً إذا أقلعت الطائرة العُمانية وعلى متنها الوفد أن تقع في مرمى نيران التحالف، وسوف تكون الطائرة ومن فيها في دائرة الخطر.
ربما يكون تطور الوضع ومسار المعارك أدى إلى مراجعات كثيرة من قبل صالح وحلفائه، وربما شعر أصحاب القرار في طهران بأنها معركة خاسرة، ولابد من مخرج قبل أن تحيق بالعملاء في صنعاء الهزيمة النهائية والساحقة، بعد أن بدت نذرها في الأفق. وربما يحاول الحوثيون وصالح ركوب موجة المبادرة الأمريكية لضمان العودة إلى صنعاء، وبعدها يتم التحلل من كل الالتزامات، كما هو الحال في كل التعهدات التي انتهت قبل أن يجف حبرها.
فالتجارب الفاشلة مع هذه الطغمة عديمة المسؤولية زرعت الشك في عقول قادة التحالف، وأجبرتهم على وضع الخطط البديلة التي تسبق في بعض الأحيان الخطط الأساسية، إدراكاً منهم أن الحوثيين وصالح تسيرهم شهوات الخداع والخيانة، وكل ما يضعونه من خطط دائماً ما تقود إلى مآلات من الخديعة، ونقض العهود وعدم احترام الكلمة والالتزام بالمواثيق.
وإذا كان هناك من بصيص أمل فإنه يأتي من عامل التوقيت الذي اختاره الأمريكان، فهم وبما تبقى لهم من رصيد من الحصافة السياسية التي كنا نعرفها قد أهدرت في عصر أوباما، وربما يكون اللاعب الأمريكي قد لمح عن قرب، وهو كما نعرف ليس ببعيد عن ساحة المعارك، أو من مراكز صناعة القرار، لمح بأن صالح والحوثي اقتربا كثيراً من لحظة تجرع الهزيمة، وأن الفرصة سانحة لعرض أو فرض مبادرة السلام الأمريكية في مثل هذا التوقيت.
الحدث الثاني، وإن لم يأخذ حقه من التغطيات في وسائل الإعلام، إلا أنه حظي بمناقشات واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي، واستأثر بتأييد واسع النطاق من قبل الأوساط السياسية والثقافية الجنوبية، وهي دعوة محافظ عدن عيدروس الزبيدي عدن لتشكيل مجلس سيادي جنوبي لملء الفراغ الدستوري الذي دشن من أجله صالح المجلس السياسي في صنعاء.
وقد اكتسبت هذه الدعوة زخمها بعد صدور بيان من قبل فصيل من المعارضة الرئيسية الجنوبية تأييداً لدعوة المحافظ، ووجدنا جمهور شبكات التواصل، ومنه قيادات جنوبية ذات وزن كبير تضع ترشيحاتها للشخصيات المؤهلة للقيام بمهمة تشكيل المجلس.
وإذا كانت الدعوة من محافظ مشهود له بأنه أثبت جدارته في شغل منصب حساس كمحافظ لعدن المتوثبة لاستعادة دورها الحيوي والتاريخي في جنوب الجزيرة التي سلبها إياه عهدان أحلاهما مر، فإن الدعوة لا يمكن أن تصدر من فراغ، ذلك أن كل الشواهد تؤكد أن صالح سيمضي في صياغة مؤسسات سياسية تضمن له الشرعية وتقنع المجتمع الدولي بأن تياره الانقلابي هو القادر على ملء الفراغ السياسي الذي نشأ بفعل انقلابه والحوثي على الشرعية.
الفرصة سانحة الآن لصياغة نموذج على الأرض المحررة، وهي أرض الجنوب التي فرض عليها صالح القهر والظلم والإهمال.
القضية ليست وحدة، أو انفصالاً، إنها في جوهرها تكمن في البحث عن صيغة جديدة تحمي اليمنيين وتوحدهم، وتجنب الناس ويلات التجاذبات والحروب، وصعود هذا الرئيس وأفول ذاك. التاريخ لا يرحم، والسكوت عن الأزمات وتركها للصدفة لا تقود إلا إلى دمار جديد، وكوارث أشد مما نرى، يكتوي بنارها الملايين، ولا يجوز من أجل الأمزجة الشخصية أن نترك الملايين يئنون ويموتون إرضاء لنزوات هذا الزعيم، أو ذاك.
نقلا عن الخليج الاماراتية