في شتاء ٢٠١٥ تحدثت صحيفة "صوت الأمة" لرجل قدمته بوصفه صاحب نظارات الرؤساء، وقال لها إن النظارة التي كان السيسي يرتديها، وهو لا يزال وزيرا للدفاع هي من نوع "بريستول"، ماركة النظارات المفضلة للرئيس عبد الناصر.
لكن السيسي سرعان ما تخلى عن ذائقة عبد الناصر بمجرد أن أصبح رئيسا، و اختار ماركة أخرى "راي بان". لقد تركَ عبد الناصر في ماضيه هكذا قالت رسالة محمد إبراهيم بائع النظارات الشهير.
مع الأيام خسر السيسي سحره الخاص، ولمجرد أن نزع النظارة الشمسية لأول مرة وألقى أشول خطاب خسر الجزء الأكبر من جاذبيته التي تأسست على غموض مستدام.
ويحدثنا علاء الأسواني عن نزول عبد الناصر في "الغيمة البيضاء" للقاء السيسي و قال الأخير للأول: أنت مثلي الأعلى، فأجابه: أنت تخسر شباب الثورة.
دار بين الرجلين حوار حول الثورة والعدالة، ثم ما لبث أن اعتذر عبد الناصر للسيسي عن نبرته التي لم ترق للأخير. وتنتمي القصة "البدائية" التي نشرها الأسواني في "المصري اليوم" إلى الزمن الذي اختلفت فيه نظارتا الرجلين داخل إطار سردي متواضع احتال الأسواني ليدلي باعتراف: لم يهجر السيسي نظارة عبد الناصر وحسب، بل عبد الناصر أيضاً.
بالنسبة للطليعة الأولى من المسحورين كالأسواني، فقد تضاءلت جاذبية السياسي على نحو مبكر، وهو لا يزال وزيرا للدفاع حيث كان مقتنعا على نحو شامل بأنه المخلص، وراح يحدث الصحفيين عن أحلامه ورؤاه و عن الغيوم الخضراء والساعات الثمينة وأذان الفجر، وعن أشياء أخرى أكثر جلالا تعبرُ في منامه.
انتقلت تلك الصورة القدسية إلى المتلقين، وبدا الرجل لدى فئات متزايدة من الناس شبيها باليسوع في طريقه إلى أورشليم لأول مرة، و بالتوازي أحاط الرجل نفسه بغموض مثير، وكانت نظارته الشمسية الشهيرة واحدة من أدوات ذلك الغموض.
في كتاب مقالة العبودية الطوعية تحدث إيتيان دو لابويسي قبل أربعة قرون عن ملوك الرومان الذين كانوا يبالغون في إحاطة ذواتهم بالغموض بغية أسطرة تلك الذوات الحاكمة.
تتسلل تلك الصورة إلى اللاوعي الجماعي كذات كلية القدرة، لا غموض ولا وضوح لكنها الأسرار. ويكرر السيسي مرارا قوله إن الله ابتكره على تلك الطريقة البديعة، على هيئة طبيب الفلاسفة الذي تنصت إليه البشرية القلقة.
مديح السيسي لذاته لم ينجز شيئا شخصيا كبيرا، أو لم يحقق تلك الإثارة والرهبة التي حققتها نظارته الشمسية، ولو اكتفى بنظارته وصمته الطويل لاحتفظ بأسطورته الخاصة، وتحول إلى سردية غامضة تضطر عبد الناصر شخصيا للنزول في الغيوم البيضاء.
مع الأيام خسر السيسي سحره الخاص، ولمجرد أن نزع النظارة الشمسية لأول مرة وألقى أول خطاب خسر الجزء الأكبر من جاذبيته التي تأسست على غموض مستدام.
يحاول السيسي حاليا وعبر أكثر من وسيلة استعادة شمسه الميتة، لكنه يقع على الدوام في منطقة ظل المصريين.
الوسائط الحديثة، الحياة الحديثة إجمالا، ساعدت على سقوط السيسي من "إله"... إلى القاع، فمن غير المستطاع أن يتخفى الرجل خلف نظارة شمسية على مر الأيام، فيوما ما سيكون عليه أن يتحدث ويخلع نظارته، و ذلك ما فعله لأول مرة ثم مراراً، فانهار بناؤه الهش وفقد شرفه الشخصي، أو سحره الذائع.
يحاول السيسي حاليا وعبر أكثر من وسيلة استعادة شمسه الميتة، لكنه يقع على الدوام في منطقة ظل المصريين، ذلك الشعب القديم الذي ينخدع لمرة واحدة أو لبعض الوقت وليس دائماً كما يقول تاريخه.
ثمة مروية مصرية قديمة عثر عليها في مقبرة سونسرت الأول من ملوك الأسرة الثانية عشرة، تتحدث عن مصير مشؤوم للإله رع. في ذلك الزمن كانت الآلهة تعيش مع المصريين على الأرض، لكن البشر سرعان ما اكتشفوا أن الإله رع ضعيف الحيلة، وغير جدير بالتقديس الممنوح له.
حاول رع استعادة شرفه بعد أن صار نكتة يومية، فسلط على المصرين ابنته "حتحور" التي تحولت إلى لبؤة مفترسة، أسالت الدماء على أراضي مصر لأجل استعادة شرف والدها. لكن رع فشل في استعادة شرفه وسحره، وما عاد قادرا على خداع المصريين مرة أخرى، مما اضطره وباقي مجلسه من الآلهة إلى الركوب على ظهر بقرة والهروب إلى السماء، وبقي المصريون على الأرض واستكملوا حياتهم.
يعتقد السيسي أن ما حدث في ٢٥ يناير 2011 لم يكن أكثر من مداهمة تعرض لها نظام شائخ، وأنه لا يحتاج سوى إلى قدر من الانتباه، مع تغيير فني في القشرة الخارجية للنظام، والتأكيد على مركزية الكاريزما.
وبالنسبة له - وهو القادم من المخابرات- فإن اللبؤة حتحور ستطوع له الجماهير، وستخلق قدرا كافيا من الامتثال الإجباري.
عثر على تلك اللبؤة ضمن آلات نظام عبد الناصر، واختزل تاريخ عبد الناصر في أمرين: اللبؤة الشرسة والنظارة الشمسية، وهناك من راح يصدق أن عبد الناصر كان هذين الاثنين أو أحدهما، بينما ستعمل خطابات السيسي الإيمانية المدرَسية مسنودة بابتسامته المسطحة ونظارته الشمسية على تأكيد حضوره كذات كلية القدرة، أو محاولة ذلك.
فهو ليس قادرا على الإحاطة بمشاكل الأرض بل على اتصال وثيق بالسماء، بذلك المكان الذي صعد إليه "رع" على ظهر بقرة. هنا سيختلف عن عبد الناصر، وسيقترب السيسي من السادات وسيدخل زمنه راكبا ظهر لبؤة، وسيخرج منه إلى زمن مبارك على ظهر الشخصية الكاريكاتورية مصطفى بكري، أو السفينة الأم طبقا للتسمية التي ابتكرها باسم يوسف.
كانت كاريزما عبد الناصر هي العمود الفقري الذي أبقى نظامه واقفا على قدميه، حتى في الهزائم العسكرية المرة، ذلك البُعد لُقن للسيسي أو وعاه بغريزته الاختزالية.
هي توليفة متناقضة ومسرحية، من كاريزما عبد الناصر وإيمان السادات وأدوات مبارك. وقد ورث السيسي عهد مبارك كله، بما في ذلك "تامر أمين"، وبعد تكاثر خطاباته وانكشافه المثير، قال تامر أمين إن السيسي لا يقدم خطابات بل إشارات، تتطلب مستوى عاليا من الانتباه والوعي وإلا بدت مضحكة. و هو (السيسي) أيضا بدا أكيداً أنه يقول إشارات، مؤكدا أكثر من مرة أنه يسوقها من منامه، من ساعات جلوسه على مقربة من الإلهام والفيوض.
تعمل التكنولوجيا الحديثة على إزالة الغموض والسحر من هذا العالم الجديد الذي يحاول السيسي الاتكاء فيه على نظارة شمسية و"سَهْوَكة" إيمانية، مطلقا العنان للبؤة حتحوت لتفعل ما تراه جيدا وضروريا.
لم تنجز كل هذه المحاولات نجاحا حقيقيا في مسألة استعادة الجاذبية والسحر الخاصين بالسيسي. إننا بإزاء حدث نادر: الرجل الذي أدخل الجلال والرهبة إلى قلوب الملايين سرعان ما أشعل موجة من الضحك والسخرية لمجرد أن نزع نظارته، إنها البكارة التي حرست عينيه، وربما صار عليه أن يسرج ظهر بقرته على طريقة الإله رع المؤسس الأول لذلك النوع من الجلال المغشوش.
يخوض السيسي ضد مواطنيه مسنودا بنظارة شمسية وبلبؤة شرسة، معركة من النوع النادر، و بدا شبيها بشخصية بائع التذاكر في مسرحية "مسافر ليل" لصلاح عبد الصبور.
ففي ليل بهيم، وعلى ظهر قطار رث لا يعلم أحد على جهة اليقين إلى أين يتجه، يقف موظف قليل الحيلة متحدثا عن نفسه بوصفه الإسكندر مهددا المسافر الوحيد بالقبض عليه وإلحاق الأذى به، إن لم يصدق ما يسمعه. وما كان من المسافر سوى أن قال لبعض الوقت إنه يصدق، إنه يؤمن. لكن عبد الصبور الروائي العظيم ختم مسرحيته تلك على نحو مأساوي لم يدر قط بخلد الإسكندر الزائف.
* نقلا عن مدونات الجزيرة