من المضحك المبكي في المعادلة السياسية اليمنية التي دأب نظام صالح على اعتمادها وسيلة للخروج من المآزق، الإمعان في المخاتلة والكذب، وإعادة تدوير التحديات بمزيد من التأزيم، والاعتقاد الواهم بأن ما كان صالحاً بالأمس يمكنه أن يصلح اليوم أيضاً.. لقد بدأت هذه السياسة الخائبة منذ ما قبل وحدة مايو/أيار لعام ١٩٩٠ عندما وافق علي عبد الله صالح على أن تكون الوحدة مقرونة بالتعددية السياسية والأخذ بأفضليات نظامي الشمال والجنوب، وكان هذا الأمر مطروحاً سياقاً وقناعة من قبل الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان القائد لتجربة الجنوب، غير أن ما حدث بعد ذلك مباشرة كان متناقضاً تماماً مع موافقات صالح ومن معه، فبدلاً من تأصيل مفهوم التنوع في المشاركة السياسية والمجتمعية بدأت اغتيالات جبانة ضد كوادر الجنوب، وبدلاً من تعميم الإيجابيات قام نظام صالح بتعويم النظام والقانون بصورة أكثر فداحة مما كانت عليه الحال قبل الوحدة، وفي صعدة تعمد صالح ومن معه استزراع شكل من السلفية الجهادية المتطيرة، مكيدة بجماعة الإخوان المسلمين وحاضنهم الأكبر حزب الإصلاح، بالرغم من تحالفه القاصر آنئذ مع نظام صالح ضد الحزب الاشتراكي اليمني، وبعد حرب الوحدة المزعومة ضد الجنوب في عام ٢٠٠٤ قلب صالح ظهر المجن لحلفائه في الإصلاح، فيما باشر حربه ضد الحوثيين.
واليوم وبعد كل هذه التجارب المريرة يعود إنتاج هذه الدائرة الجهنمية التي تعتمد السياسة بوصفها كذباً ومخاتلة، فنرصد ذات المتوالية البائسة بالترافق مع قبول صالح ومن معه بالمبادرة الخليجية شكلاً والانقلاب على استتباعاتها البناءة عملياً، فالانتقال من حالة الاحتراب الظالم ضد الحوثيين لمؤازرتهم الناجزة في الانقلاب على شرعية الدستور والمبادرة الخليجية ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، وحالما أعلن الحوثيون ما سمي بالإعلان الدستوري وشرعوا في تشكيل إطار بديل للدولة الشرعية عبر ما سمي بالمجلس الثوري، كان صالح ورفاقه على ذات الدرب مع الحوثيين، متناسين تماماً أنهم كانوا قبل حين يشكلون نسيج الدولة اليمنية وروافعها الناتئة، فإذا بهم يلتحقون طواعية بثقافة أمراء الحرب الجدد الذين خلعوا رداء المؤسسة والقانون ليقبلوا طائعين مختارين بدور العرابين الصغار للميليشيات الفاقدة للشرعية.
لم يكن صالح موقعاً وعلى رؤوس الأشهاد على المبادرة الخليجية الحكيمة فحسب، بل نال حصانة برلمانية ناجزة، وكان شريكاً بالمناصفة في حكومة محمد سالم باسندوة، لكنه قابل هذه التنازلات الشجاعة باستعادات لسياساته القديمة.. ابتداء بتعطيل أداء حكومة باسندوة.. مروراً بالاعتداء على أبراج الطاقة الكهربائية وأنابيب النفط والغاز، وصولاً إلى اغتيالات للضباط وصف الضباط والطيارين والقيادات السياسية العاقلة، وحتى تسليم معسكرات بكاملها لاحتياطييه الأمنيين المدثرين بلبوس تنظيم القاعدة وما شاكلها.
وعلى خط متصل تعلم الحوثيون الباحثون عن أوهام الميتافيزيقا الداكنة من عدوهم السابق صالح، فأعلنوا عن أنفسهم بوصفهم حزباً سياسياً، والتحقوا بمؤتمر الحوار الوطني وفق ذلك الإعلان، لكنهم في كلتا الحالتين كانوا يكذبون، فقد باشروا الانقلاب على الدولة اليمنية الموروثة، مدعومين بمعسكرات صالح وأسلحة الدولة.
من المؤسف أن المرجعية الرئاسية والحكومية اليمنية تعاطت بحسن نية مع هذا النفر من المخاتلين، فكان السكوت على معاول الهدم المنظم لأداء حكومتي باسندوة وبحاح الأولى خير شاهد على تلك النوايا الحسنة، وتجلت هذه الحالة بصورة أكثر بؤساً بعد هجوم الحوثيين على مدينة عمران واغتيالهم القائد العسكري الوطني القشيبي، وتواصلت مسيرة الرهان المطلق على المرجعيات السياسية بشقيها الوطني والدولي دونما فعل يرتقي لمستوى القابليات المتاحة عبر أدوات الدولة المختلفة، فكانت النتيجة ما نراه اليوم من حال.
ثنائية تقابلية مفخخة بكل الاحتمالات.. شرعية بموازاة التمرد بالمعنى التوصيفي العام للكلمة. لكن هذه الثنائية تشف عن تعددية مدججة بأدوات الحرب وثقافتها العدمية.
ذلك هو المضحك المبكي في المعادلة السياسية اليمنية القادمة من ذات المستنقع الآسن لذات السلوكات التي وسمت اليمن السياسي المؤسسي منذ عقود المتاهات، فقد تضافرت عوامل الماضي السلبي لتشكل شبكة عنكبوتية تحاصر الجميع.
هذه الحقائق التي تطل برأس أفعى التنين تتطلب من معسكري المواجهة الماثلة إصلاحاً داخلياً أولاً، ويتلخص هذا الإصلاح عند معسكر التمرد والانقلاب في التخلي الحر عن وهم إعادة عجلة التاريخ للوراء، والتسليم الصادق بالعملية السياسية الانتقالية على قاعدة المرجعيات المحلية والعربية والدولية. وعلى معسكر الشرعية بلورة رؤية جديدة مداها المباشر شرعنة الشرعية بالتموضع التام العام والشامل في الداخل اليمني، والتنازل الإجرائي عن وهم الرهان المطلق على القرارات الدولية التي عرفنا حدها وحدودها في أكثر الوقائع تراجيدية في عالم صراعات ما بعد الحرب الباردة.
* عن الخليج الإماراتية