أين كان اليمنيون في أيلولهم الأسود؟
الإثنين, 15 أغسطس, 2016 - 08:20 مساءً

توجد شعوبٌ كثيرة تحتفظ ذاكرتها بأيلول أسود، ولليمنيين أيلوهم الأسود، ٢١ سبتمبر/أيلول ٢٠١٤. في الليلة تلك اقتحم الحوثيون -وهم جماعة دينية مسلحة- العاصمة صنعاء، فأعلنت قوات الأمن والجيش وقوفها على الحياد.
 
وباستثناء مظاهرات الطلبة في تعز في الأيام التالية، فقد بقيت كل المحافظات، على المستوى الشعبي، صامتة. وسرعان ما أفرغ الحوثيون المجال الحيوي الداخلي لصالحهم ونصبوا قائداً للجيش ينتمي إليهم، وخلال وقت قصير استحوذوا على المجال القضائي.
 
قبل سقوط صنعاء بأيام:
كان الحوثي قد استعرض قوته العسكرية في "شارع المطار"، الممتد إلى وسط العاصمة، وألقى خطاباً شكر فيه الأحزاب السياسية التي شاركته استعراض القوة ذاك على مشارف العاصمة، شكر الحوثي القوميين واليسار، وحزب صالح، فقال الأخير ـكما نقلت مصادر إعلامية محليةـ إن الحوثي رجل سياسي غير ناضج "فضح حلفاءه".
 
كان مثقفون وإعلاميون يُغرقون صفحات التواصل الاجتماعي بالحديث عن القوة الجديدة التي جاءت لتضع حداً لفساد النخب السياسية، موغلين في المديح الأخلاقي إلى حد استخدام كاتب معروف لتعبير أسطوري، شبيه بالنصوص القبطية عن القديس مار جرجس "لقد جاء الحوثي لاستنقاذ لقمة الفقير".
 
كان الحوثيون، بادئ الأمر، جماعة دينية تعيش في الجبال وعلى حواف المُدن، لديها نظام مالي وأمني وعسكري يقع كلياً خارج عين القانون. بطريقة ما كان يدير إمبراطورية مالية ذات طبيعة عسكرية، أو العكس، وكان كل ذلك يدور في مجال لا تجرؤ الدولة على الاقتراب منه.
 
لكنه بقي يتحدث عن الفساد، ولم يكن هو وجماعته بهذا الوضوح سوى حالة من الفساد والعصاباتية المحضة، كون مملكته المالية والعسكرية لا تمتثل لأي تشريع، وكانت التقديرات تتحدث عن نظام مالي مستقر يمكنه من دفع رواتب ٣٠ ألف مسلحٍ تابع للجماعة. قال رئيس جهاز الأمن القومي لصحيفة سعودية عقب سقوط صنعاء، إن الحوثيين اقتحموا صنعاء بعشرين ألف مسلح.
 
أن تمتلك جماعة ما نظاماً مالياً يدفع رواتب جيش من ٣٠ ألف مسلح، ولا تعلم القوانين عن ذلك النظام شيئاً لهو أمر جلل. ومع ذلك فقد كتب مثقفون وساسة عن الحوثيين كجماعة أخلاقية قدمت في الوقت الملائم لتوقف عجلة الفساد. كان الحوثي يتحرك على أرض سماؤها عشوائية، فقد فقدت المصطلحات والدوال قيمتها، وتداخل دخان القُرى، ثم صارت اللغة المستخدمة في الحقل السياسي فارغة تقول كل شيء ولا تحدد شيئاً.
 
بعد اقتحام صنعاء راح رئيس الجمهورية يرُد على هواتف زملائه من خارج اليمن، قال لهم إن كل شيء على ما يُرام. وبينما كانت العاصمة تغرق في قبضة الميليشيا الظلامية راحت شخصيات كثيرة من الدائرة المحيطة بهادي، ومن فريقه، تبشر اليمنيين بما حدث.
 
أحد رجال هادي القريبين منه وصف سقوط صنعاء بالخبر السار، معتبراً إياه نهاية لزمن الفساد واستقلالاً أخيراً للدولة اليمنية، وآخر، من رجال هادي، قال إن اليمنيين سيعرفون القيمة التاريخية لما حدث قريباً. أما العطاس -الذي يعمل الآن مستشاراً لهادي- فقد أطل على قناة العربية قائلاً: "نبارك للحوثيين ما حصلوا عليه".
 
لم يتوقف وزير دفاع هادي عن التقاط الصور مع القادة المنتصرين، وبدت الرئاسة نفسها كأنها غرفة عمليات حوثية. يقول علي العماد، عضو المكتب السياسي للحوثي إن هادي طلب منهم الاستحواذ بصورة نهائية على مبنى جامعة الإيمان، ذلك بعد أن عرضوا عليه فكرة إعادة مباني الجامعة لمالكيها، وبقي هادي يلتقي الجماعة على نحو مستمر حتى قررت هي وضعه في الدولاب.
 
 بينما كانت صنعاء ترقد محتضرة:
منتصف ليل الـ ٢١ من سبتمبر كانت المؤسسات قد تهاوت كلها في يد الجماعة الدينية المسلحة، وبقي الرئيس هادي في قصره يتحدث إلى الخارج عبر الهاتف، مخبراً العالم بأن كل شيء على ما يرام وأن الأمر لا يعدو كونه مناوشات بين بعض القوى المحلية.
 
خلال أيام أدرك الحوثيون لعنة صنعاء، تلك المدينة التي لا تمكن قسمتها على اثنين، وأدرك صالح اللعنة نفسها، وراح كل في اتجاه. وضع الحوثيون هادي وحكومته تحت الإقامة الجبرية، وأرسل صالح نجله إلى السعودية عارضاً خدماته في طرد الحوثيين من العاصمة. استطاع الحوثيون، بخفة، تحويل صالح من "الزعيم" إلى "أبو أحمد"، كواحد من قادتهم الميدانيين الذين لا يتحركون سوى تحت كُنى. بهذا استسلمت صنعاء كلياً للاعبٍ وحيد.
 
جنوباً أبدى قادة شعبيون وسياسيون تفهمهم لما قام به الحوثيون "للتذكير: قام الحوثيون بإسقاط عاصمة الجمهورية اليمنية، وهم جماعة دينية مسلحة". الرواية التي قدمها بن بريك، القائد السلفي المعروف، تقول إن قادة الحراك في الجنوب كانوا مقتنعين كلياً بضرورة تفهم ما قام به الحوثيون والتعاون معهم، أملاً في أن يمنحهم الحوثيون ـالمنتصرون عسكرياًـ حق تقرير المصير.
 
من صنعاء أعلن وزير الداخلية -المقرب من حزب الإصلاح- أن الحوثيين أصدقاء للداخلية، ومن الخارج تمنى الرئيس الجنوبي السابق ناصر محمد وحدة فيدرالية عادلة بين جنوب اليمن والحوثيين، كما في مقابلة مع وسيلة إعلامية صادرة من عدن. عند الترب، وزير الداخلية، كان الحوثيون قد أصبحوا جزءاً مكملاً لنظام العدالة والقانون. وعند "ناصر محمد" اختفى الشعب اليمني في الشمال وبقي فقط "الحوثيون".
 
سألتُ حميد الأحمر، الشيخ المعروف، عن قبيلته الكبيرة فقال إنها صارت في حوزة الحوثي، وهي قبيلة ـ كما قال الأحمرـ تقاتل خلف من يمسك بخطامها. صار الحوثي هو شيخ القبيلة الجديد، يعتقد الأحمر. أما حزب صالح فقد طلب منه "الزعيم" الانخراط كلياً مع الحركة الحوثية. سيلعب صالح بكلماته قائلاً إنه تحالف "مقرر من السماء" -طبقاً لكلماته- هدفه الدفاع عن الوطن.
 
لا يمكن إغفال متغير اجتماعي خطر عمل كحصان طروادة، ضمن أحصنة طروادة التي ملأت صنعاء، لمصلحة الحوثية، فقد كانت العاصمة تعج بالمنظمات المدنية، وكانت الطبقة الاجتماعية الرفيعة التي تهيمن على المنظمات المحلية أو ذات الارتباط الدولي تمثل -بطريقة أو أخرى- واجهة حماية للحوثيين. سرعان ما وقفت منظمة الشقائق لحقوق الإنسان -الأشهر في اليمن- والمعهد الديمقراطي إلى جوار الحوثيين. خلال نصف عام -منذ ثورة ١٩٦٢- عاش الملكيون، الذين خسروا الحرب مع الثورة، في صنعاء.
 
ولأن صنعاء كانت مسرحهم على مر السنين فقد استحوذوا عليها، لكن كجهموريين عندما كان عليها أن تصبح جمهورية. ما إن سقطت صنعاء في قبضة أحد أنجال الملوك المهزومين، عبد الملك الحوثي، حتى عادوا ملكيين من جديد، ودخل الحوثي على أكتافهم.
 
كان اليمنييون "الرئاسة، الجيش، الأمن، التيارات السياسية، القبيلة، المنظمات المدنية، الساسة في المهجر، المثقفون" مجرد أدوات رخوة أو صلبة استخدمها الحوثي في المعركة. عندما نتذكر تلك الليلة من أيلول الأسود لا نجد سوى بضع مئات من الجيش وقفوا أمام الآلة الحوثية فجزرتهم في طريقها. أولئك الشجعان الذين لا يعرفهم أحد أعلنت عنهم الجهات المسؤولة في الأيام القادمة على طريقتها "عُثر على مئات الجثث"، وهكذا دفنوا كجثث.
 
الصورة هذه -وهي دقيقة فيما أزعم- تقول إن الشعب اليمني تمالأ ضد نفسه، وخلق كل الظروف، بما فيها الغطاء الأخلاقي، لجماعة دينية مسلحة كي تلقي بالبلد وبه إلى المجهول.

* نقلا عن مدونات الجزيرة

التعليقات