دعونا نكتب بعيداً عن النكد هذه المرة. لا حاجة لنا للحديث عن دونالد ترامب وهو يتوعد المسلمين بمنعهم من الدخول إلى الولايات المتحدة، سنترك النائبة البريطانية ثانغام ديبونير التي تطالب بتعليم المهاجرين «أسس الحضارة الجديدة»،
و»أتيكيت التعامل مع المرأة العصرية» (على أساس أنها لم تولد لأب مهاجر!). حسن نصر الله الذي يلوح بسبابته كعكاز عجوز هرم في وجوهنا صباح مساء لن نسمح له بتعكير صفو هذا المقال. دعونا لا نتحدث عن أصحاب التفسير التاريخي للإسلام الذين يريدون أن يسحبوه من جلباب القرن السابع إلى عصر «الموضات الحديثة»، دعوا هؤلاء يعيشون داخل عمامة القرون الأولى، متناسين قولهم بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان. أيمن الظواهري في أحد الكهوف البعيدة، عبدالملك الحوثي يجتر أفكار الخامنئي في بطون جبال صعدة، والخليفة البغدادي يسوي جبته لإلقاء خطبة «الفتح الأخير»، كل هؤلاء لن نتحدث عنهم.
أنا اليوم مصمم على ألا أشق على القارئ بـ»حرفي الثقيل»، وألا أدخله في قضايا معقدة تمتد من تضاريس السياسات المعقدة إلى تخوم الأديان المختلفة، إلى مطامع دونالد ترامب في بعث «الامبراطورية الأمريكية»، إلى أحلام «اليمين التشيكي» في عالم يخلو من الإسلام، ومعتقدات الحاخام عوفاديا إسحاق حول «شعب الله المختار»، وأوهام بدرالدين الحوثي حول «اصطفاء الله» لأهل البيت للإمامة لأنهم «أقوى من غيرهم في هذا الشأن»، ولأن الله «ميزهم عن غيرهم»، بهذا النسب الشريف، كل هذا «التهويم الثيولوجي والمثيولوجي»، لا يعنيني هنا.
لن أتورط في «لطميات» على أطلال مدننا التي تمحى من الخارطة، ولن أنجر إلى حفلات «ردح» صاخبة حول «المقاومة والممانعة، وعملاء الاستكبار العالمي، وتحالف البترو- دولار»، وغيرها من مصطلحات قاموس قاسم سليماني ووكلائه في بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء، العاصمة العربية الرابعة التي يخيل لسليماني أنه وضع يده عليها.
أعترف أنني أصبحت كاتباً «ثقيل الظل»، أمر كغيمة قاتمة على وجدان «القراء المرهفين»، وأريد في هذا المقال ألا ألقي بـ»أمطار سوداء» على روح القارئ الذي قال لي يوماً «خف علينا يا جميح».
المقالات الثقيلة التي تتكلس فيها الرواسب الفكرية والانفعالية لا تناسب قارئاً يريد أن يبتهج، أن يذهب في الصيف إلى شواطئ بعيدة لا تصل إليها الشاشات التي يتفجر الدم من بين جنباتها، والتي غدت لكثرة ما تضخ من مشاهد الدمار طللاً كونياً رهيباً، لا يحوم حوله «غراب البين»، قدر ما تحلق فوقه طائرات «أف 16»، والقاذفات الاستراتيجية، وغازات الخردل القاتلة. المقالات المدبجة لا تناسب قارئة تدخل السوق بحثاً عن تقليعة جديدة في اللباس والعطور، وآخر صرخات «الآيفون»، وسندويتشاً خفيفا تداوم عليه لتبدو رشيقة كخفقة قلب محروم. هذه القارئة تنفر من «مقالات الصلصال» التي أكتبها، وتبحث عن ديوان شعر للسوري نزار قباني، لتخبئ فيه أشواقها بعيداً عن كلمات رنانة لسوري آخر يدعى بشار الأسد.
صممت على أن أتغلب على نفسي وأن أضمن أن يخرج القارئ مبتسماً بكتابة مقال عن أي شيء يخلو من «اللت» اليومي والصراخ الذي نمارسه بغرائزية سادية ملتبسة.
للحياة وجه آخر. والكوميديا هي الوجه الآخر للتراجيديا، والزهرة مجموعة من الأشواك الناعمة، والأبيض هو سواد يحفل بمهرجان اللون، في صيرورة كونية لا تتناهى.
يراد لنا أحياناً أن نكتب بماء السماء لا بتراب الأرض، كي نحلق بأرواحنا بعيداً عن شرور التراب، وغباره الذي يريد أن يطاول عنان السماء. نحن كالناي الذي يئن طويلاً في حنينه الدائم إلى الشجرة التي انفصل عنها، وما كل هذا الصراخ، والصخب والأنين الصادر، إلا محاولات من الناي الكوني للعودة إلى شجرته التي انفصل عنها منذ زمن بعيد، وظل يغني حنيناً إليها. دعونا نفهم العالم على هذا الشكل. ذلك أسهل فهماً، وأجمل تفسيراً.
عندما يظل الإنسان جاثياً على «أطلال مدينته»، فإنه لا يعيد بناءها، ولذا مهم للإنسان أن تظل داخله بقعة ممتلئة بنور لا يصل إليها غبار المدن التي تتهاوى، ولا «الألحان الكربلائية» التي تملؤنا حقداً ورغبة في الانتقام من قتلة الحسين الذين ماتوا جميعاً في الأزمنة الغابرة.
سأحاول في هذا المقال ان أستلهم «حكمة الهند»، و»أشعار العرب»، وأن أرى في أمريكا وجه أنجلينا جولي التي تزور مخيمات اللاجئين، لا وجه جورج بوش الذي أسس لمخيمات اللجوء في بلداننا المنكوبة، وبالطبع لن أتأمل وجه تيريزا ماي الجامد التي يبدو أنها تريد أن تكون تاتشر الثانية لولا أن العمر لا يسمح لها بتحقيق تلك الأمنية، يكفيني في لندن وجه «مايا» الغجرية التي تتنقل من جسر إلى جسر تغني للغجر الطيبين الذين لا يعرفون إلا الرقص والغناء.
لا أحتاج إلى دورات تدريبية في كيفية التعامل مع «المرأة»، كما تطالب عضوة البرلمان البريطاني ديبونير، التي ترى أن القادمين الجدد وخاصة اللاجئين يتحرشون كثيراً بالنساء لأن «ثقافة التعامل مع امرأة متحضرة» غير متوفرة لديهم. لا أحتاج إلى الفصول التي تطالب بفتحها هذه المتعالية للمهاجرين لسبب بسيط، وهو أن «مايا» غجرية ليست من المجتمع المخملي الذي تنتمي إليه تيريزا ماي وثانغام ديبونير، ولأنني أصلاً يعجبني الناي الذي يمسك به الغجر أكثر مما تجذبني فساتين ثانغام أو تيريزا ماي.
ما علينا، وعدت ألا أتحدث عــــن «النكد»، وأن أتحاشى توتير أعصاب القارئ، وأن انظر إلى نصف الكوب ـ أو حتى ربعه ـ الممتلئ، كي لا يخرج القارئ من هذه الصفحة إلا وقد ارتسمت ابتسامة خلابة على شفتيه، أو حتى على روحه، تشبه تلك التي ترتسم على شفتي طفل بريء يبتسم وهو خارج من محل بيع الدمى والألعاب بعد أن اشترى له أبوه ما يكفيه منها.
الحياة مسرح، والأحياء ممثلون كما يرى شيخنا شيكسبير، والمقادير تجري، ولا يد لنا في جريان النهر، وما دام الأمر كذلك، فما علينا إلا أن ندخل النهر بقلب شجاع متفائل، كي نتمكن من عبوره إلى الضفة الأخرى التي عندما يصلها القارئ سيكتشف أن الكاتب بذل جهداً كبيراً، لا لرسم البسمة على شفتيه، ولكن لمنع «تكشيرة» كئيبة كان يمكن أن تكون على وجهه لو أن الكاتب واصل الكتابة.
وصل المقال نهايته، وصل القارئ الضفة الأخرى، لم يبتسم القارئ، ضاعت الابتسامة في الموج، لكنه ـ على الأقل ـ وصل سالماً، فحمداً لله على سلامته.