بعد حرب أكتوبر (تشرين الثاني) 1973 ظهرت فكرة أن البحر الأحمر بحيرة سلام عربية في مواجهة التحديات والأخطار الراهنة التي تجري في الإقليم بل وخارجه، ورعت جامعة الدول العربية بعض المبادرات في هذا الإطار. وبعد التطورات الأخيرة في البحر الأحمر، والأزمات المستعصية في أفريقيا وبحر الصين وأفريقيا يبقى السؤال المطروح الذي يتردد بقوة: هل تلاشت إمكانية أن يصبح أي حيز جغرافي إقليمي أو دولي منطقة سلام؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بحجم التحديات والأخطار التي تواجه هذه المنطقة الممتدة لدول البحر الأحمر ومناطق التماس، التي تمثل منطقة نار في الوقت الراهن، ما يجعلها تشكل تهديداً للاستقرار في العالم ليس للبعد الاقتصادي أو حركة التجارة فقط، إنما أيضاً بالتطورات الإقليمية والدولية الجارية، التي تمس ليس فقط دول البحر الأحمر إنما مناطق التماس الاستراتيجي، التي تنخرط في إطار منظومة من الحسابات السياسية والاستراتيجية الكبيرة.
معطيات رئيسة
تحتل منطقة البحر الأحمر أهمية استراتيجية وجيوبوليتيكية كبيرة، فهي من أهم الطرق المائية الاستراتيجية الحيوية في العالم، لأنها تجمع بين ثلاث قارات تصل الشرق بالغرب، كما أنها تربط بين عديد من البحار والمحيطات العالمية. وما يميز البحر الأحمر جيوبوليتيكياً وجيواستراتيجياً وجود المضايق التي تتحكم بمداخل هذا البحر ومخارجه، أهمها قناة السويس في شماله، وباب المندب جنوبه، فضلاً عن وجود الجزر المهمة، مثل جزر شدوان وحوبال وتيران وصنافير في الشمال، وجزر ميون وأرخبيل حنيش وجزر دهلك وكمران وفرسان في الجنوب.
في هذا الإطار، من المعطيات الاستراتيجية والسياسية الحاكمة والمفسرة لما يجري من واقع راهن ومستقبل منتظر يمكن تأكيد أن منطقة البحر الأحمر في نطاقها السياسي والجيواستراتيجي باتت من أهم مناطق الصراعات المتوقعة، نظراً إلى استمرار حالة عدم الاستقرار منذ سنوات، بسبب استمرار الحرب في اليمن والصراع الراهن في دول القرن الأفريقي، وممارسات بعض الدول، ووجود حالة من السيولة السياسية، وعدم الاستقرار في المنطقة، ما ولّد بالفعل حالة من التأزم السياسي والاستراتيجي، وهو ما سيكون عنواناً لفترة ممتدة في الفترة المقبلة، بخاصة أن هناك من يغذي هذه الحالة، ويُعلي من حدة الصراعات الكامنة.
ولعل ممارسات ميليشيات الحوثي الأخيرة، واستهداف السفن الإسرائيلية، وتهديد حالة الملاحة البحرية الدولية والعمل على تبني استراتيجية مجابهة بصورة مباشرة مع إسرائيل وتهديد منطقة التماس وصولاً إلى إسرائيل يؤكد هذا الأمر، فالإشكالية ليست في إطلاق الصواريخ على إيلات، أو الوصول إلى الداخل الإسرائيلي.
تهديدات حقيقية
في ظل الواقع الراهن، وحالة التوتر الحالية، وتهديد الملاحة الدولية التجارة، فإن الأمر يتطلب تشكيل تحالف بحري تقوده الولايات المتحدة، وتعمل على إدخال مزيد من الدول الأجنبية بعد رفض الدول العربية الانخراط في هذا التحالف خلال الوقت الراهن، الذي لم تدخله سوى مملكة البحرين، لوجود الأسطول الأميركي على أراضيها.
ويبدو أن الأمر مرشح لمزيد من التصعيد مع بدء عسكرة البحر الأحمر والانتشار فيه، واستدعاء الدول الكبرى قدراتها، وإرسال مزيد من القطع والسفن البحرية، ما يؤكد أن الموقف مرشح لمزيد من التصعيد على رغم وجود تباينات كبرى، واختلاف في التعامل بين الموقفين الأميركي- البريطاني من جانب، وبين الموقف الفرنسي– الألماني، ما يؤكد أن الاتجاه إلى العمل العسكري، على رغم ما يجري، سيكون مرشحاً للتطور، بخاصة مع بدء توجيه الضربات الأميركية على مواقع الميليشيات الحوثية كرسائل أولى للتعامل والضغط عليها للتراجع، وهو أمر قد يجري تكتيكياً في إطار ما توجه به إيران وكلائها بمعنى تخفيف الضغط عن الجبهات من خلال توظيف الفصائل العراقية والسورية، مقابل تهدئة الأوضاع في الشمال، إذ تتواجد القوة الضاربة لـ"حزب الله" مقابل مسرح عمليات اليمن.
سيكون البحر الأحمر من الآن فصاعداً مسرحاً لمزيد من المواجهات، ولن يكون كما كان بحيرة عربية مستقرة، بسبب دور الفواعل من غير الدول التي تقوم بدورها في إطار منظومة التعامل التي تطرحها إيران، وتوظفها بصورة لافتة وعند الضرورة، للضغط على الجانبين الأميركي والإسرائيلي للتعامل الجاد مع جبهة غزة.
تحركات مدروسة
ما يجري في البحر الأحمر مرتبط بما يجري في مسرح العمليات في قطاع غزة، وعلى اعتبار أن غزة هي المنطلق فإذا جرت التهدئة في القطاع ستتم التهدئة على مسارح العمليات الأخرى، وتتوقف التهديدات الجارية في باب المندب والبحر الأحمر، لكن الإشكالية الحقيقية مرتبطة بأمرين.
الأول: سلوك بعض دول البحر الأحمر، وما جرى من اتفاق بين إثيوبيا وجمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دولياً من اتفاق يقضي بإعطاء إثيوبيا حرية التواجد واستثمار ميناء بربرة، ما يؤكد ذلك في ظل ما يجري من مخططات لتغيير خريطة التعاملات الراهنة، التي يجري تغييرها من الصومال إلى إثيوبيا إلى جيبوتي إلى التحركات الراهنة للدول الكبرى، التي تواجدت في المنطقة، وبالجوار من البحر الأحمر، الأمر الذي سيدفع إلى مزيد من الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية المتوقع نشوبها.
الثاني: تحرّك بعض الدول الرئيسة في البحر الأحمر، فأسست السعودية على سبيل المثال مجلس البحر الأحمر وخليج عدن، الذي انضمت إليه الدول العربية من أجل بناء استراتيجية متماسكة لدول البحر في إطار العمل على إبقاء البحر الأحمر بحيرة عربية خالصة، ومنع دوله من بناء تحالفات فوق إقليمية.
ومع ذلك، استمر الأمر على ما هو عليه من حالة عدم الاستقرار، بخاصة أن إسرائيل كدولة، كما تؤكد في سرديتها الأمنية والسياسية والجيواستراتيجية، أنها من دول البحر الأحمر، ولها حضور لافت من خلال ميناء إيلات التجاري والعسكري، حيث يبلغ طول الساحل الإسرائيلي على البحر الأحمر عشرة كيلومترات تمتد عليها مدينة إيلات الصناعية والتجارية والسياحية ما يجعل من هذه المدينة مركزاً ترفيهياً ومنتجعاً شتوياً ينافس شرم الشيخ، نظراً لوجود شاطئ مرجاني ومنشآت للرياضة البحرية، ويتلقى ميناؤها النفط عبر الأنابيب إلى مصفاة حيفا. الأمر الذي يؤكد أن الوجود العربي هو الأساس في إطار هذه المنظومة من التطورات المفصلية في البحر الأحمر.
وحالة العسكرة التي باتت للبحر الأحمر في الوقت الراهن، تطلبت التعامل مع أطراف إقليمية ودولية ليست من دوله، ما يؤكد أن الأمر لم يعد خالصاً لدول البحر من الأطراف الأصيلة، والمشكلة استراتيجياً لتواجدهم، بدليل السلوك الإثيوبي في أرض الصومال، وحالة عدم الاستقرار الأمني في إثيوبيا، إضافة إلى التحركات الإسرائيلية الدائمة في هذه المنطقة عبر استراتيجية متنوعة في القرن الأفريقي، وامتدادات البحر الأحمر، بخاصة في إريتريا، التي دائماً ما تنكرها. وعليه، لا وجود مقيم في هذه المناطق، وعلى طول تواجد الجذر، الأمر الذي يؤكد أن الأطراف الإقليمية بل والدولية العابثة بأمن البحر الأحمر تعمل على هز الاستقرار الذي كان موجوداً في مراحل معينة.
حضور استراتيجي
لاعتبارات متعددة وتداخل المصالح العربية الإقليمية والعربية الدولية سيظل عنوان البحر الأحمر من الآن فصاعداً عدم الاستقرار، ليس بسبب الحرب الدائرة في غزة، وارتدادات ما يجري، إنما أيضاً لتوجهات بعض الدول، فمن جيبوتي عبر البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، هناك توسع في الاستثمار بالبنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق إلى جانب الوجود العسكري الصيني، مع وجود قوى أخرى أكثر نشاطاً أيضاً، والتوسع الكبير الذي قامت به مصر لقاعدة برنيس البحرية.
وإلى الجنوب، تطورت الموانئ في السودان أيضاً في سياق الجغرافيا السياسية للمنطقة، لا سيما إعادة تأهيل الصين وتوسيعها محطة حاويات بورتسودان، التي أصبحت الآن جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، كما أصبحت منطقة البحر الأحمر ممراً، ونقطة التقاء لعديد من كابلات الاتصالات العابرة للقارات عبر البحار.
الخلاصات الأخيرة
لم يعد البحر الأحمر منطقة مستقرة آمنة، بل مدخل لصراعات قد تجري أو تحدث جراء استمرار الصراع الراهن في حرب غزة، وما يؤكد هذا أن خيار التصعيد والعسكرة سيظل مطروحاً بقوة في المدى المنظور، بخاصة أن تشابك المصالح الكبرى سيكون عنواناً لما سيجري، بخاصة في منطقة مضيق باب المندب، الذي يمثل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وفي اتجاه المحيط الهندي وبحر العرب، على حدود 3 دول، وهي: اليمن وجيبوتي وإريتريا، ويفصل عملياً بين قارتي آسيا وأفريقيا، وهو يستمد أهميته الاستراتيجية كونه المنفذ الوحيد الذي يتحكم تماماً في البحر الأحمر من الناحيتين العسكرية والتجارية.
وفي ظل تحركات الولايات المتحدة، التي تقود سباقاً دولياً كبيراً من أجل تغيير الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر في ظل التنافس الإقليمي والدولي، للسيطرة على الممر المائي الاستراتيجي، ما يؤكد ذلك إعلان الولايات المتحدة عن تدشين التحالف البحري لحماية الملاحة والسفن التجارية في البحر الأحمر، وجاء ذلك إثر قيام ميليشيات الحوثي في اليمن بشن هجمات صاروخية، وبمسيرات في مسعى لاستهداف السفن، التي تمر عبر مضيق باب المندب .
ووفقاً لرؤية إسرائيلية فإن ميناء إيلات على البحر الأحمر لن يكون نافذة فقط على الدول العربية الآسيوية، إنما سيكون مركز اهتمامه أيضاً أفريقياً، ولهذا الغرض فإن هناك عدة دول أفريقية سيتم فيها نشر مراكز التسويق والتجارة لميناء إيلات، ومن خلال رؤية تستند إلى أن تحقيق السلام الاقتصادي سيدفع بالتوصل الحقيقي للسلام السياسي.
*نقلا عن اندبننت عربية