منذ أيام صحبت روحي إلى أبعد ما حملتني إليه قدماي، بحثا عن صوت الطبيعة وصفاء الروح.. إلى موقع حباه الله بسكون النفس، منتزه طبيعي يدعى بـ "كهف محيضة" غرب منطقتي الحبيبة الكرب ، كما هو المعتاد هروبا من هموم الحياة وضجيجها ومن كل شيء يذكرنا بالواقع المزري، لا نعرف كيف ومن إين ومتى يأتي الخلاص؟؟!
وجدت قدمي الجريحة "جرح لقمة العيش" قد تعبت وناشدتني بأن أتخذ أقرب نقطة ظل أستراحة، كنت وصلت مكان يسمى بـ "شعب الجرجرة"، أخذت متكىء من الصخور لممارسة طقوس مضغ وريقات القات، رغم ردائتها إلا أن لطبيعة سحرها في أسر خيال الانسان وسلب التعب من الجسد، ساعات لا تكاد الحيوانات والطيور تميز إن كنتُ شجرا ام حجرا ام جنيا ولا أعتقدها تظنني إنسانا، فلا يتخذ من تلك الأدغال الموحشة مكانا للاستراحة إلا جماعة من المشاة البالغين وحاملي الأسلحة او "رجلاً أُتُخذ غدرا وكُبلت يداه وقدامه بالسلاسل وسيق به في ليلة بلا قمر أو نجوم أو حتى شمعة أمل تضيء ظلام ليلة يُتم واحدة لأطفاله، لاشيء سوى همهمات ضباعاً بشرية تتجادل عن ما بعد المهمة من أقتسام لمتعلقات الضحية من مشائخ او من كانت تربطهم أبسط علاقة مع بعض الأمراء والسلاطين وغيرهم من المثقفين ورجال الدين من شطري اليمن، كذلك ضيعت رؤوس من عامة الناس لحسابات شخصية وحُكم عليهم بالذبح وجز الرقاب والدفن بطريقة لم تعهدها البشرية منذ أن بعث الله الغراب ليري ابن آدم الأول كيف يواري سوءة أخيه".
هذا ما كنا نسمعه عن ذلك المكان وسمعه غيرنا الكثير من نواحي الضالع وربما توجد أماكن مشابهة في بلادنا، وحكايات أخرى تروى يشيب لها رأس الولدان عن حقبة الزمن الآثم من سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، إي قدما ساقتني إلى مقبرة لغرباء لا أعرف من سكانها ولا أثر لشواهد تميزها، ترى هل دفنوا على القبلة؟!
جلت بناظري إلى40 عاما خلت أكاد أرى دمعة كبرياء وعز خبئت بين شقوق صخرة بكماء، أسمع شيخاً كبيراً يتوسل ماء وضوء ودقائق لصلاة الوداع، وألمح أيادي مرتعشة وخائفة وهي تحز رؤوساً تراها لأول مرة وأصوات السكاكين والحراب تبكي وهي تعانق أوردة بريئة، كم من مأساة مرت من هنا؟ لولا منادي صلاة العصر لما عدت من سفر الزمن ذاك قبل أن أحمل وصية غريب في بلاداً بعيدة، بعدها صعدت على مرتفع صخري يطل على تلك الأجداث لأداء صلاة العصر مستغفراً إلهي لعلها قدمي قد زلت وداست على قبر أحدهم بدون قصد ودعوت لكل روحٍ أزهقت في ذلك المكان بالرحمة والمغفرة، وتذكرت كلام الله في نص الأية 34 من سورة لقمان: "وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت"، ولأول مرة أستوحش هذه الآية وانا أقف أمام بيان عملي لتلك الآية، كيف لعشرات إن لم يكونوا المئات من البشر دفنوا هناك بلا عنوان، كم من أسر أنتظرت عودة غائبها حتى وإن كان في كفن؟؟!
تلك الأدغال هي اليوم مرتع لنمور والضباع، بقايا عظام الحيوانات المترامية توحي أن معارك ليلية تحدث هنا لأقتسام الفريسة، بطون اسلاف تلك الضواري قد أتخمت في يوما ما من لحوم البشر الغرباء، ربما تغيرت الحيوانات وكذلك الأشجار وتبعثرت عناصر الحمض النووي الـ DNA ولكن الصخور وحدها شواهد على ملفات مفقودة من تاريخ اليمن الأسود بشطريه، هنا فقط توحد الدم اليمني وما تبقى هي لعنة تلك الدماء التي أصابت اليمنيين شمالا وجنوبا، في فترة تسيد فيها الأوغاد والجهلة واللقطاء على الشعب، وفقد الوطن خلالها أشجع وأنبل وأفضل الرجال، ثمناً لصمت والتصفيق لمسرحية عبثية تحت مسمى الإصلاحات السياسية وفق حسابات قروية مقيتة وعصبية نتنة.
وما يؤسفنا أننا نرى تلك العقليات قد بعثت من جديد بعد مضي قرابة النصف قرن على مأساة لم يعقبها الندم والأسف والاعتراف بالخطاء، بل تبعها التعنت والمزايدة وأنها إي تلك العقول هي وكيلة الله ورسوله في الشمال ومالكة الوطن في الجنوب ولها الحق في أقتسام الوطن والوطنية لمن سار على هواها، والخيانة والويل لمن خالف منهجها وفكرها، وهم بذلك مهرولين لا محالة بما تبقى من الوطن نحو هاوية لاتستوعبها شعاب ووديان مثل "شعب الجرجرة."
ومن المؤسف أن هناك من بقايا العقليات المتسخة بدماء ضحايا الجرجرة الأبرياء لازالت تفخر بذلك وتتوعد بعودة مجازر الأبادة لمن يختلف معها بالرأي، وعليه أعتقد اننا بحاجة إلى فتح ملف الجرجرة وأمثالها من الملفات امام الشعب والقضاء ومحاكمة وأدانة الجناة حتى وهم في قبورهم.