مع إشـراقة كل صبـاح ومع غروب كل شمس نشيع أغنية ، الأغاني تموت تتسرب من بين حناجرنا وتختنق في صدورنا الصدئة التي يملؤها دخان السجـائر ودخان عوادم السيـارات ، كان علينا أن نطلق الأغاني عالياً لترفرف في الفضاء الرحب وتتنقل بين الحقول كالفراشات
كانت الجدات يصدحن بأغنيات الصباح وينثرن فوق خيوط الشمس الأولى أغاني تدغدغ وجنات الورود أغاني عذبة تطلب الرضى من خالق الوجـود
يا لله رضاك مطلول فوق مطـلول
ريق الحبيب دواء لكل معـلول
بعد أغنية الافتتاح هذه تبدأ المراعي باستقبال قطعان الماشية وتبدا الأبقـار بالخروج من حظائرها وهب تتمايل طرباً عندما تسمع الرعاة الصغار يغنون لهـا
سارحـة وأرعيش
أرعيش واترعـويش
وحين تصل إلى المـراعي تبدأ الشمس بزيادة حرارتها رويداً رويداً فتنطلق على الفور اغنية العتاب ، عتاب لطيف تردده الفتيات اللواتي يجمعن الحشائش من جميع الحقـول.
يا شمس يا حامية قلي حماش
تحتش مسافر ورعيان القراش
فتهدئ الشمس حرارتها فيبدأ الرعاة الصغار بالتجمع ليلعبوا ، يتجمع الأولاد ويلعبون ويغنون ، فلعبتهم لا بد لها من أغنية وأغنيتهم تقـول
حليلقـة يمـاني
يا زهـرة الرمـاني
ذبحنا العشمـاني
يوم الخميس الثاني
وعلى مقـربة منهـم تتجمـع الفتيـات ويبدان اللعب والغناء ولكن اغنيتهن اغنية مختلفة .
حميمه حمامه
يا نازله تهامه
بالقوس والعمامه
خزا خزا من امي
ومن بنات عمي
تلبسين الحليه
وحليتي بالربعه
مختمه بشمعه
وعندما تنتهي الفتيات الصغار من اللعب ينصرفن إلى جمع عيدان من الحطب وعند عودتهن تنطلق تباشير العودة من أفواههن العـودة :
ألا يا رويح حزمتي كبيـرة
ألا يا رويح لأمي الضنينة
وحين تتجمع الغيوم في السماء ينظر الفلاح العاشق لأرضه بشغف إلى السماء ويطلب من الله أن ينزل قطرات المطر لترتوي حبيبته الظمائ وينشد ضارعاً .
يا مطر وامطر
للذره والبر
والشعير يسبر
والمعين الله
وحين يسمعهم الصغار يتجمعون ليدلوا بدلوهم وينقسموا إلى مجموعتين ويجوبون الحقول وأصواتهم تردد .
يا تواب تب علينـا
وارحمنـا وانظـر إلينـا
واسقنا الغيث يالله
من شفـاعة محمـد
العمال أيضاً وهم يحملون الأحجـار الثقيلة لا ينسون اهزوجتهم التي تبعد تعبهم وتجعل الصخور الجامدة تسير وتتحرك ، أنهم يحثون الحجارة على السير قائلين .
حجر سيري سايـره
ولا تكـوني حائـرة
الأغاني والأهازيج لا تفارق الأفواه أبـداً فحين يقترب المساء تعلو الأصوات معلنة انتهاء وقت العمل لأن المساء سينشر عباءته السوداء في الأرجاء.
غرب الليل غـرب
إلا والليـل
والعشـاء بالمســرب
إلا والليـل
ألا والليـلاني
إلا والليـل
يعـودون إلى البيوت فتبدأ النسـاء بطحن حبيبات القمح وتنطلق أغاني المطحن لتمتزج بالغذاء فالغناء شيء ضروري كالأكـل والشرب لا يستطيعون الاستغناء عنه أبداء ، الأمهات في المساء يرضعن صغارهن الأغاني مع الحليب فحين يرضع الطفل يغمض عينيه على صوت امه الحنون .
هوية يا نـوم تعال عنـدنـا
هوبـة وأزوج بنتنــا
فهل ستتزوج تلك البنت ؟ نعـم .. ستتزوج وستكون أغاني الزواج رائعـة فالجميع يغني ، تتجمع النساء في الليل وينثرن الترانيم في السماء ويطرزن بضوء الاغنيات سواد الليل الحالك ويتبادلن مع النجوم حكاية رائعة أسمها حل اليل وتبدأ هذه الحكاية بالصـلاة.
صلي صلاتي كما صلوا صلاة الجمـاعة
في كل صف أربعــة
حلفت يا المولعي لا اكسر عليك المداعه
وارجم بكيس التتن
ووحده الصباح الذي يوقف تلك الأغـاني فأين فرت هذه الأغـاني ؟
هل فضلت الاختبـاء في مشاقر الجـدات أم أنها نامت على شفاههـن ؟
لا نـدري اين ذهبت حقـاً لا ندري أن ذهب أين اختفت ؟ أم اننا لا نـريد أن نبحث عنهـا فلم نعـد نملك قـلوباً شفافة طـروية كأجـدادنـا ، لم نتوحد مع الطبيعـة ونعشق الأرض مثلهم كانوا يغنون للصبـح وللشمس والريح ويغنون للمطر وكان الأرض تحدثـهم ويصغون لحديثهـا ، أما نحن فأصبحنا جامدين ، غرانا الصمت ببرده وبوحشته ولم نطلق في وجهه أغنيـه دافئــــة عذبــة ، فلماذا لا نغنـي ؟ لماذا نتــرك الأغـاني تمــوت