مواطن عادي، بلغته البسيطة ورفضه الحاد للواقع، بعنفوانه الروحي وعينيه الكحيلتين، حاول أن يُذكرنا بالقذى العالق في عيون بلاد كاملة، وقد نجح.
ما قاله المواطن حمدي عبد الرزاق يدركه الجميع بل وملايين الناس في صدورهم حكايا أشد فظاعة مما قاله الرجل؛ لكن معضلة الإنسان هو أنه يسهو ويعتاد الفظاعات. يتعايش معها، حتى يأتي شخص يتمتع بوضوح داخلي وقوة رفض فطري، فيرمي قنبلة يُوقظ بها الناس من غفوتهم فيستعيدون إحساسهم بجحم البشاعة، ويحتشدون؛ كي يصرخوا ضدها. هذا ما فعله المكحل، وذلك مجده، أطلق صرخته ومضى.
ما يعيشه اليمني هو حالة من الوجود المشوّه، ملايين من الناس يديرون حياتهم في مساحة خانقة، يكتفون بتدبير معيشتهم وفقا لحدها الأدنى، لقد فقدوا أي أمل بواقع مختلف.
ولربما انخفضت مستوياتهم الذهنية لتغدو متسقة مع واقعهم المعدم. وهنا تكمن أصل البلية. ليست المشكلة أن يعاني الإنسان؛ لكن الخطر في تصالحه التام مع التشوّهات، لدرجة نسيانه أن هناك إمكانيات واسعة للوجود.
يتذكَّر الناس حجم تعاستهم، حين يخرج فيهم إنسانا يُشبه المكحل، تجاوز كل مخاوفه وصدح بالحقيقة البسيطة، الحقيقة المعروفة والواضحة أمام كل الناس.
أيتها الدولة السافلة، هل أنتم دولة أولًا..؟ أيتها العصابة المتطفلة: صيغة الحياة التي تقدموها لنا مرفوصة. إما أن تتوقفوا عن سفالتكم، وذلك أمر محال، أو تعالوا، تعالوا أضع حدا لهذه الحياة التي تهددونا بها. اقتلوني، ليس أمامكم سوى هذا الحل الوحيد؛ كي تتخلصوا من رفضي لكم. من رفضي لصيغة الحياة الهينة التي تبتزوني بها. خذوها. قالها الرجل وغادر: "شبعنا حياة" كان يقصد شبعنا موت. لكنه استخدم مفردة "الحياة" كمجاز هنا. وللدقة كان يقصد: متنا ونحن أحياء. حينها ينقلب مفهوم الخسارة. الخسارة: ليس أن تغادر الحياة كليا، بل أن تتقبل حياة أشبه بتهمة. وكي تتخلص من هذه التهمة، تحتاج شجاعة التخلي عنها.
غادر المكحل بلادا غارقة في الوحل، حيث الجماعة الحاكمة لم تكتفِ بأن أغرقت وجود اليمني في المستنقع؛ بل وتواصل تهديدها للناس، وقد صاروا غارقين في بركة آسنة. لكأنها تحب أن تثبِّت وضع الناس في الهاوية، تقنعهم بواقعهم الرث، كما لو كان ذلك هو صيغة الحياة الوحيدة المتاحة، وكما لو كان تهديدهم هو الضمانة الوحيدة لبقائها. انظروا، كيف تتصرف السلطة الوقحة: تهدد الناس حتى وهم يحترقون في الجحيم. هي لا تعدهم بشيء، وفوق ذلك تريدهم أن يتقبلوا حياة بلا أمل ولا فرجة وبصمت. هذه ليست سلطة مستبدة ومنحرفة، بل وفوق ذلك دنيئة ووقحة.
تعيش سلطة الحوثي محاصرة بشعب كامل يتابع سلوكها ويتندر عليها، يلتزم الصمت؛ ليس قبولا أو رضى بمن يحكمه، بل احتقارا وقطيعة معه. تنحسر مساحة الخوف وتتعطل قدرة القوة والبطش على أن تلجم الناس.
بالمقابل يكتسب الناس شجاعة البوح، ومعه يتحول مسار الرعب من قلوب المحكومين بالقهر نحو قاهريهم المدججين بالسلاح.
الخلاصة:
هناك عاطفة رفض حقيقة لسلطة المليشيا الحوثية، تتجلى بزخم أكبر في كل مرة وعند كل حادثة. تحتاج هذه العواطف الشعبية الحرة والمفاجئة لنخبة ذكية، تلتقطها وتعمل على مراكمتها وتنظيمها؛ كي تتحول لسلطة ضغط وأداة تخفض من جموح السلطة الحوثية المتوحشة.
الحوثي جماعة اعتادت ممارسة الفظاعات، وترسخ لديها ما يشبه الأمان النسبي، وصارت قادرة على ابتلاع كل الحوادث دون دفع الثمن. لكن هذه القدرة ليست قابلة للديمومة. شريطة أن يتمتع مناهضيها بذكاء، ويحيلون كل حادثة لموجهة رفض شاملة، تحفز آخرين للانفجار ضد السلطة، وبذلك يتمكن خصوم الحوثي من تقريب شعور الخطر للجماعة، وممارسة تهديد حقيقي ضدها.
يتوجب تحويل المُكحل إلى بطل قومي، مثل نماذج كثيرة قبله، ترميزهم كمناضلين امتلكوا الشجاعة للبصق في وجه السلطة المتطفلة، وأسهموا في تنشيط إحساس الناس بصورتها البشعة. لقد حملوا أرواحهم على أكفهم، وطلقوا دنيا صارت فيها الحياة أكبر من الموت. لكن روح البطل الحر أعز من القبول بحياة كهذه، ولأنها كذلك تستحق أن نرفع من مكانتها بعد موتها؛ كي نقول للبقية: تستحقون حياة عزيزة وأنتم هنا، ولئن كنا أعجز عن تأمين حياة المكحل في ظل وجوده بيننا؛ لكننا ما نزال قادرين على رفض ما رفضه البطل، مصممين على أن نواصل النضال معا، كي نخلق حياة تليق بتلك التي غادر المكحل باحثا عنها.
*نقلا عن بلقيس