من المفترض أن يكون حدث كهذا أمرا طبيعيا جدا، ولا يستدعي أي سؤال أو نقاش، وللدقة يفترض ألا يكون الأمر باعثا للجدل. لكنه في الواقع يبدو حدثا مستلزما للنقاش، وما يثار حوله ليس مجرد عواطف غوغائية، ولا مجرد مكايدات سياسية. الأمر بالفعل يستدعي وقفة مطولة من جوانب كثيرة. ما هي..؟
في البداية، ليست مشكلة أن يزور المواطن أو الفندم أو العميد طارق عفاش محافظة تعز، أو أي مكان في الجمهورية، فهذا حق بديهي له، سواء كان ذا منصب أو مجرد منه. غير أن حاجتنا إلى هذا التنويه البديهي هي مؤشر أولي على أننا أمام شخصية محاطة باستثناءات، ولم يعد حقها البديهي في زيارة أي مكان أمرا طبيعيا. أي أن تاريخ الشخصية، وما تمثله من حمولات سياسية، والخلفية الأسرية التي جاء منها الرجل، وتحولاته السياسية، إضافة إلى توقيت الزيارة وطبيعتها، وأخيرا طبيعة المحافظة التي زارها؛ كل تلك العناصر خلقت ما يشبه الفجوة بين حق الرجل البديهي في الزيارة وبين التوجسات والتململات الصادرة من هنا وهناك.
بداية، طارق عفاش هو أول مسؤول كبير من أعلى سلم الدولة يزور تعز منذ سنوات، حيث الرجل يشغل عضو مجلس الرئاسة. ومع كونه زار تعز بصفته الجديدة هذه، غير أن طبيعة الزيارة حدثت فجأة، وكأننا أمام وفد سري لم نسمع عن وصوله إلا مع أول لقاء قام به.
هذا الغموض المتعلق بالزيارة وأهدافها، التي لم تتكشف إلا من طبيعة لقاءاته، يترك علامة استفهام ليس فيما يخص الزيارة بذاتها، بل فيما يخص أهداف الشخصية التي زارت المدينة.
التوجس هنا يظهر لدى الزائر نفسه وليس نابعا من خصومه في المدينة، كما يحاول البعض تصوير الأمر. مع أن توجسات خصومه هي أمر طبيعي - كما سبق وأشرت.
ثانيا: لسنا بحاجة إلى إعادة شرح تاريخ طارق عفاش؛ كي نثبت أن للمتوجسين منه مبرراتهم؛ لكن يكفي التذكير أن الرجل -حتى لو تجاوزنا ملابساته الماضية- هو الآن يتموضع في جغرافيا الساحل التعزي، ويبدو كما لو أنه يتخذها منطلقـا لاستعادة أمجاد أسرته. هذا يكفي كمبرر مركزي لريبة عميقة من الرجل.
سيقول لك البعض: راجع خطابات الرجل طوال خمس سنوات، كل ما يقوله يثبت أننا أمام خطاب يتخذ من هدف استعادة الدولة والجمهورية قيمة مركزية له، ومحددا ناظما لتوجهه، وعليه فتوجساتكم نابعة من مخاوف واستيهامات قديمة، لا مبرر واقعي لها، فيما لو انطلقتم من الخط الجديد الذي ينتهجه الرجل، وهو نهج منفصل عن كل حمولاته السياسية السابقة.
غير أن هذا الرد النظري ليس كافيا لإزالة التوجسات. فالبراجماتية التي ينتهجها طارق عفاش في خطاباته لا يمكنها أن تمنح المتابع يقينا حاسما أن الرجل أنجز توبته السياسية بالفعل. فالسياسة مجال عملي يستدعي الريبة ولا قيمة فيها للإيمان بالغيبيات، ولا وثوق فيها بالتطهر الباطني. وعمليا، فالعميد لم يقدم أي شيء، وليس في سجله أي تراكم نضالي حقيقي، يخفض من ريبة الناس منه.
قلت سابقا: "في الحقيقة، إذا أردتم أن تفهموا طارق عفاش ضعوا خطابات الرّجل العنترية جانباً، تجاوزوا ما يقوله وترصدوا ما لم يقله، فجوهر توجّهه لا يكمن فيما يُفصح عنه، بل فيما يصمت عنه.. يقول إنه لا عدو له سوى الحوثي، هذا صحيح، غير أن عداوته النظرية للحوثي لا تُثبت الضد، ولا تعني بأي وجه من الوجوه صداقته الحقيقية لمشروع الدولة والجمهورية.
الجمهورية كما يحلم بها الناس، بمفهومها الحقيقي، وليست الجمهورية التي في خيال طارق عفاش، ولا يدري المرء ما هو مستوى الخيال المدني لدى الرجل.
إنه عدو عدوّك، وذلك ما لا يمكنك التشكيك به؛ لكنه ليس صديقك، وذلك ما لا يُمكنه أن يُثبته، أو ما لم يتمكن من اثباته-عمليا- حتى اللحظة، ولا يمكنك أن تغضّ الطرف عنه. وما يمنحك مبررا للتوجس منه.
يريد طارق أن يقبض النتيجة دون أن يدفع الثمن، فيتجلّى كبطل بلا ملحمة، كمنتصر بلا معركة، كصديق يتأهّب لمقاسمتك المكسب، دون استعداد لمشاركتك الثّمن لحظة انخراطك في المنازلة، هذا السلوك الملتوي ليس سياسة متذاكية فحسب، إنه نوع من اللؤم المكشوف والفهلوة المستفزة.
يعتقد طارق عفاش أنه أذكى من الجميع. وبالفعل فالرجل اتقن الفهلوة السياسية طوال السنوات الماضية، منذ بدأ بتشكيل نفسه كقوة عسكرية، وتطابق مع رغبة دولة خارجية ترغب أن تستحدث لها ذراعا عسكريا في الشمال كحامل لنفوذها، وقد نجح الرجل، ونجحت خطة الدويلة المعروفة والواقفة خلفه، غير أن هذا أمر لا يهم ويمكن تجاوزه.
أما ما لا يمكن لطارق عفاش أن ينفيه، ولا يستطيع خصومه أن يتخلوا عن حقهم في مساءلته، ومن ثم التوجس منه؛ فهو ما يلي: "يعرف طارق عفاش جيدا أنه ما يزال قوة عسكرية مستحدثة ومجردة من أي تاريخ نضالي حقيقي، أشبه بقوة استعراض ناشئة، وتتمدد في نفس منطقة نموها، بلا أي فعل يمتحن صدق شعاراتها، ويثبت جدارتها بما تعلن عنه أو تدعيه.. ليس فيما يخص السنوات الماضية وصولا إلى هذه اللحظة، بل وحتى مستقبلا.
فالرجل ينتهج سياسة مراكمة للقوة، ويبالغ في ضخ خطابات مرتبة توحي باستعداده الدائم للمواجهة مع من يقول إنه عدّوه المركزي، ويعني بذلك الحوثي.
لكنه لم يفعل شيئا حقيقا تجاه هذا العدو. وليس بحوزتنا أي دليل يمنحنا موثوقية أنه سيفعل.
منذ خمس سنوات، وطارق عفاش يخطب في الساحل، ومن يكتفي بمتابعة خطابات الرجل، سيُخيّل لوهلة أن الجنرال يتحدث مستندا لذاكرة عامرة بالملاحم، ذلك أن مستوى الخطاب المقدّم يبدو كما لو أنه تمثيل رفيع النبرة لواقع زاخر بالفداء والتضحية، فيما الحقيقة العارية تبدو مخجلة، فلو حاول المرء التفتيش عما يمنح جنرالا عاطلا كل هذه الثقة في الحديث، وما يبررها، وما قد يدعيه لنفسه من استحقاقات مستقبلية، لن يجد شيئا، باستثناء حقه النظري في مقاومة الحوثي.
لكن السؤال: متى سيحين الوقت ليمتحن طارق عفاش ثقل خطاباته، ويحيلها إلى واقع عملي..؟ ألم تحن -طوال السنوات الماضية- أي فرصة؛ كي يقدم الرجل برهانه، أم أنه يعتقد أن بمقدوره مواصلة النغمة ذاتها. ثم القدوم نحو تعز ليبيع لها الوهم كعادته. منتظرا منها أن تبارك مسعاه وتقول له: هاك النفوذ والسلطة في تعز. استرد ملك عمك وجمهوريته، ذلك الملك الذي ابتدأ عفاش مسيرته نحوه من تعز. لربما إن طارق عفاش يود استنساخ التجربة من يدري..؟
الخلاصة: من الواضح أن طارق عفاش لا يُقدم ذاته كقوة سياسية وعسكرية -حتى لو لم تكن لديها من الرصيد ما يجعلها ذات استحقاق واسع في مربع السلطة، إلا أنه يظل ممثلا لفصيل سياسي وعسكري يتوجب أخذه بالاعتبار ومنحه حصته منها- قلت من الواضح، إنه لا يقدم نفسه بهذه الصورة فحسب؛ فهي صورة ممكنة القبول، بل قد صارت مقبولة فيما لو أنها تُقدِّم نفسها بهذه الصورة.
غير أن المحاولات التسويقية، التي ينتهجها طارق عفاش وأدواته الإعلامية، توحي بأن الرجل يتحرَّك مستحضرا أمجاد أسرته الماضية، ويدفع باتجاه تطبيع العلاقة مع بقية القوى السياسية، ليس ليغدو شريكا لهم، بل ليتجاوزهم ويتمكن من استقطاع المساحة الكبرى في السلطة، مستعيدا بذلك النسخة القديمة من الجمهورية؛ حيث عفاش الملك، ولبقية القوى الفتات.
قد يبدو هذا الاستنتاج مبكرا، لكن المؤشرات الأولى توحي بذلك، كما لو أن تعز خاضت كل هذه الدروب العسيرة، كي تعود إلى المربع الأول، وتسلم ذاتها للقوة نفسها، بحلتها الجديدة.
هذا الأمر، ليس فقط مدعاة للريبة، بل ومصدر للعار، عار أن تبذل الشعوب عصارة لحمها ودمها ثم تقف على حافة المعركة، وتصافح من كانوا سببا في مأساتها. والعار هنا ليس نابعا من التصالح معهم؛ فهو أمر طبيعي، ذلك أن كل الشعوب تحتاج إلى أن تنهي مسيرة حربها بلقاء الأخوة الأعداء. ومشكلتنا ليست في احتضان طارق عفاش، ولا في حساسيتنا من تاريخه، فكل ما يتعلق بالرجل -منذ ولد حتى اليوم- وكل صنائعه أمور -على ثِقلها- يمكن تمريرها…فقط العار هو أن تسلم له الراية مجددا، كما لو أنك عجزت عن تخليص نفسه، وصرت مرهقا ثم أسلمت دارك لمن دار بك كل هذه السنين، وأوصلك إلى ما أنت عليه.
* نقلا عن بلقيس نت